ويُسمَّى حينئذ "برهانًا". وإنْ كان قد قُضِي في مقدماته كلها أو بعضها بِمُقْتَضَى الظن، فلا ينتجُ إلَّا ظنِّيًّا؛ لأنَّ النتيجة دائمًا تَتْبَع أَدْوَن المقدمتين. وَمَا يُفِيد الظن سَمَّاه المتكلِّمون "أَمَارة"، ولَمْ يُسموه "دَلِيلًا" كما سبق.
فمثال القَطْع ما سبق، ومثال الظن قولنا: (الوضوء عبادة، وكُل عبادة بِنِيَّة)، ينتج أنَّ "الوضوء بِنِيَّة".
ومثال ما إحْدَى مقدمتيه قطعية والأخرى ظنية قولنا: (صلاة الظهر فَرْض، وكُل فَرْض يُسَنُّ له الأذان؛ فصلاة الظهر يُسَنُّ لها الأذان).
وقولي: (اخْتَارَهْ) جُملة حالية، أَيْ: حال كَوْن هذا القائل اختار هذا القول، والله أعلم.
ص:
64 - أَمَّا الَّذِي يُكْسِبُنَا التَّصَوُّرَ ... فَهْوَ الْمُعَرِّفُ، وَ"حَدًّا" قَدْ يُرَى
65 - وَحَصْرُهُ في خَمْسَةٍ أَقْسَامِ ... "الْحَدِّ" وَ"الرَّسْمِ" ذَوَيْ تَمَامِ
66 - أَوْ دُونَهُ، وَالْخَامِسُ "اللَّفْظِيُّ" ... فَـ "الْحَدُّ": مَا كَانَ بِهِ الذَّاتِيُّ
67 - جِنْسًا قَرِيبًا، ثُمَّ فَصْلًا مُخْرِجَا ... وَ"الرَّسْمُ": مَا بِلَازِمٍ قَدْ أَخْرَجَا
68 - فَـ "الْحَدُّ" لِلْإنْسَانِ إذْ [تُطَابِقُ] (¬1) ... تَقُولُ فِيهِ: "حَيَوَانٌ نَاطِقُ" (¬2)
69 - والرَّسْمُ فِيهِ: "حَيَوَانٌ ضَاحِكُ" ... وَ ["النَّاقِصَانِ": الْجِنْسَ] (¬3) أَنْتَ تَارِكُ
¬__________
(¬1) كذا في (ز، ص، ض، ش، ن 1، ن 5) ويوافِق الشرح. لكن في (ق، ن 2، ن 3، ن 4): يطابق.
(¬2) كذا هذا البيت في (ض، ت، ش، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5). لكنه جاء في (ز، ق، ص) هكذا:
تَقُولُ في الْإنسانِ إذْ تُطَابِقُ ... بِالحْدِّ: "هَذَا حَيَوَانٌ نَاطِقُ"
(¬3) كذا في (ض، ش، ت، ن) ويوافِق الشرح. لكن في (ز، ص، ق): النقص ما للجنس.
فجَعْل عدم المانع شرطًا غيرُ مستقيم، فتأمله.
قولي: (أَوْ ظَاهِرٍ) إشارة إلى المسألة الثانية، وهي "مجهول العدالة ظاهرًا وباطناً"، وقد عُلم مِن ذِكر جهالته ظاهرًا أنه مجهول باطنًا، بخلاف العكس وهو القِسم الذي بدأتُ به.
والحاصل أنَّ المجهول ظاهراً وباطناً (أي: وهو معروف العَيْن برواية عَدْلين عنه) لا تُقبل روايته.
قال بعضهم: بالإجماع. وجرى عليه في "جمع الجوامع".
وهو مردود بحكاية ابن الصلاح فيه عن الجماهير أنه لا يُقبَل.
وعن أبي حنيفة أنه يُقبَل.
وحكى غيره ثالثًا: إنْ كان الراوي عنه لا يروي إلَّا عن عَدْل، قُبِل، وإلَّا فلا.
وهذا القول لا حقيقة له؛ لِمَا سبق أنَّ مثل ذلك تعديل، فهو عَدْل، لا مستور.
قولي: (وَمَنْ جُهِلْ بِعَيْيهِ) إلى آخِره -إشارة إلى المسألة الثالثة، وهي "مجهول العين".
قال المحدثون: مَن لم يَرْوِ عنه إلا راوٍ واحد. ومثَّله الخطيب بجبار الطائي وعبد الله بن أغر الهمداني والهيثم بن حنش ومالك بن أعز وسعيد بن ذي حدان، لم يَرْوِ عنهم غير أبي إسحاق السبيعي.
وذَكر أمثلة أخرى عليه في بعضها نقد.
فهذا القسم ظاهر ما في "جمع الجوامع" فيه الاتفاق على عدم القبول، وصرَّح مُصَنِّفه بذلك في غيره، وليس كذلك؛ فقد حَكى ابن الصلاح وغيره الخلاف فيه.
وحاصل الأقوال فيه خمسة:
أحدها: وهو الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم أنه لا يُقبَل
وغير ذلك.
والأصوب أن يقال: إنها للاستفهام، ولكن أريد بالاستفهام بها النفي، كما يقال بذلك في الاستفهام الإنكاري، نحو: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].
قيل: وتأتي أيضًا بمعنى "قد"، وذلك مع الفعل، كما في {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْر} [الإنسان: 1]. وبالغ الزمخشري حتى قال: إنها أبدًا بمعنى "قد"، وإنَّ الاستفهام إنما هو مستفاد من همزة مقدَّرة معها.
ونقله في "المفصل" عن سيبويه.
وضُعِّف ما قاله الزمخشري بأنه لو كان كما قال، لم تدخل إلا على فعل كَـ "قد". وأما نَص سيبويه فمذكور في "باب أَم المتصلة"، ولكن قد نَص على خلافه في "باب عدة ما يكون عليه الكلم"؛ فَلْيُؤَوَّل نَصُّه.
نعم، معنى "قد" المحمول عليها "هل" في {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [التقريب] (¬1).
قال في "الكشاف": (إن التقدير في {هَلْ أَتَى}: "أقد أتى؟ " على معنى التقرير والتقريب جميعًا، أي: أتى على الإنسان قبل زمان قريب طائفة من الزمان الطويل الممتد لم يكن [فيه] (¬2) شيئًا مذكورًا، بل شيئًا منسيًّا نطفة في الأصلاب، والمراد بالإنسان: الجنس؛ بدليل: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [الإنسان: 2]) (¬3). انتهى
وفسرها غيره بِـ "قد" خاصة، ولم يحملوا "قد" على التقريب، بل على معنى التحقيق.
وقيل: بل معناها التوقُّع، وكأنه قيل لقوم يتوقعون الخبر عما أتى على الإنسان وهو آدم
¬__________
(¬1) كذا في (ص). لكن في سائر النسخ: للتقريب.
(¬2) كذا في (ص)، لكن في (ت): فيها.
(¬3) الكشاف (4/ 666).
الأُولى: تخصيص السنة المتواترة بمثلها:
ويجري فيها الخلاف السابق في تخصيص القرآن بالقرآن.
وحكى الشيخ أبو حامد عن داود أنهما يتعارضان.
ومنشأ الخلاف أيضًا في ذلك مما سبق في أنَّ السُّنة إنما تكون مُبيِّنة؛ لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ}، لا محتاجة للبيان، سواء تواترت أوْ لا.
ولذلك قال القاضي عبد الوهاب: منع بعضهم من تخصيص السُّنة بالسنة بما سبق.
المانية: تخصيص المتواترة بالآحاد:
ويطرقها الخلاف مِن حكاية القاضي عبد الوهاب آنفًا.
وجوابه: أن المبيَّن (بالفتح) لا يمتنع أن يكون مُبيِّنًا (بالكسر) مِن وجه آخَر، إذْ لا تنافي بينهما.
ومنهم مَن يحكي فيه الخلاف السابق في تخصيص القرآن بالسُّنة، وقد صرح بذلك القاضي في "التقريب" وإمام الحرمين في "البرهان" وغيرهما، فإنكار ذلك على البيضاوي ليس بجيد.
فائدة: تخصيص عموم القرآن والسُّنة المتواترة هل يجوز بالقراءة الشاذة؟ يتجه تخريجه على ما سبق من الخلاف في أنها يُحتج بها [أَم] (¬1) لا.
نعم، في كتاب أبي بكر الرازي أنه يجوز إذا اشتهرت واستفاضت، قال: (ولهذا أخذنا بقراءة ابن مسعود: "متتابعات"، ومنعنا به الإطلاق في الآية) (¬2).
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): أو.
(¬2) الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص (1/ 198).
قال أبو الخطاب: وعندي أنه أنكر عليهم الاستحسان مِن غير دليل، فلو كان عن دليل، لم ينكره؛ لأنه حقٌ، وهو معنى قوله: "أنا أذهب إلى كل حديث" إلى آخِره. أي: أَترك القياس بالخبر، وهو الاستحسان بالدليل.
وكان ينبغي لابن الحاجب نقله أيضًا عن المالكية، فقد قال القاضي عبد الوهاب أنَّ كتب أصحابهم مملوءة مِن ذِكره وإنْ لم يكن منصوصًا عن مالك. وممن نَصَّ على القول به ابن القاسم وأشهب وغيرهما.
وقد اختُلف في تفسير "الاستحسان" الذي في جَعْله من الأدلة الخلاف.
فالأشهر فيه ما اقتصرتُ عليه في النَّظم، وهو أنه: عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد تَقْصر عنه عبارته، فلا يَقْدِر أنْ يفوه به.
وَرَدَّه ابن الحاجب بأنه إنْ لم يتحقق كَوْنه دليلًا فمردود اتفاقًا، وإنْ تحقق فمعتبَر اتفاقًا.
قيل: وفيما قاله نظر؛ لأنه قد يقال على الشق الأول: لا معنى لكونه لم يتحقق؛ لأنَّ الفرض أنه عندهم دليل. وعلى الشق الثاني: لا نُسَلِّم أنَّ ما لا يمكن التعبير عنه مِن [الأدلة] (¬1) يُعْمَل به.
وأما البيضاوي فَرَدَّه بأنه لا بُدَّ مِن ظهوره؛ ليتميز صحيحه عن فاسده؛ فإنَّ ما ينقدح في نفس المجتهد قد يكون وَهْمًا لا عِبرة به.
قيل: وفيه أيضًا نظر؛ لأنَّ هذا إنما يقدح فيما يكون في المناظرة، وأما بالنسبة إلى عمل المجتهد به فإنه انقدح عنده أنه دليل؛ فعمل به وأفتى به وإنْ لم يَقْدر على التعبير عنه، فينبغي أنْ يقال في الرد: إنَّ المنقدح في نفس المجتهد إنما يمتاز عن غيره من الأدلة؛ لكونه لا يمكن التعبير عنه، ولكن ذلك لا يقد في كونه دليلًا، فيكون التمسك به وفاقًا، فأين الاستحسان
¬__________
(¬1) كذا في (ق، ش)، لكن في سائر النسخ: الاول.