كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

فقولنا: (ما أنبأ) جنس يشمل الخمسة، وخرج:
بِـ "الذاتي": الرسميُّ؛ لأنه باللازِم.
وبِجَمْع "الذاتي": التعريفُ اللفظي؛ لِوحدته.
وباشتراط استيعابها: الناقصُ.
وبِـ "الكُلية": المشخَّصات وإنْ كانت هي ذاتيًّا للمشخَّص مِن حيث هو مشخَّصٌ؛ فإنه لا يُحَدُّ بها حَدًّا حقيقيًّا؛ لأنَّ الحدَّ للكليات؛ لأنَّ التشخيصَ خارجٌ عن الماهية.
وخرج بِـ "المركبة" ما لَمْ يُفَسَّر التركيبُ معها، وهو الهيئة الصُّوريَّة التي يحصُل بها صورةٌ [وحْدانية] (¬1) مطابِقة لِصورة المَحْدُود، بل ذلك مجرَّد ذِكْر الموادِّ المفردة وإسقاط لبعض الأجزاء وهو الصُّوري، وذلك بأنْ يذكُر مثلًا الفصلَ قَبْل الجنس، بل يَكون الصوابُ ذِكر الجنس ثم الفصل بَعْده كما مَثَّلْناه.
لا يقال: جميع ذاتيات الشيء هو عَيْن الشيء، والشيء لا يُفَسِّر نَفْسَه.
لِأنَّا نقول: دلالة المحدودِ مِن حيث الإجمال، والحدّ مِن حيث التفصيل، فليس عَيْنَه مِن كل وَجْهٍ؛ فَصَحَّ تعريفُه به؛ ولذلك لَمْ يُجْعل اللفظان مترادفين (عَلَى المُرَجَّح) إلَّا إذَا كان الحد لفظيًّا كما سيأتي.
وأمَّا "الناقص": فهو ما اقتُصِر فيه على ذِكْر الفصل وَحْده. كقولك في الإنسان: (ناطِق). أو يُؤتَى به (¬2) مع الجنس البعيد، نحو: (جِسْم [ناطِق]) (¬3).
¬__________
(¬1) كذا في (ز، ش)، لكن في (ض، ق، ص، ت): وجدانية.
(¬2) يعني: يؤتَى بالفصل.
(¬3) في (ش): ناقص.
واعتُرض بأنه قد روى عنه محمد بن عمرو بن عطاء وأبو عمران الجوني ونعيم المجمر وحنظلة بن علي، وأيضًا فمرداس وربيعة صحابيان، وكُلهم عدولٌ.
فائدة: عند المحدثين مِن أقسام المستور أيضًا مَن عُرف -بذكره في الجملة- عَيْنُه وعدالته ولكن جُهل تعيينه، كإيهام الصحابي، وكقول الراوي: (أخبرني فلان أو فلان) والفَرْض أنهما عَدْلان، فهذا لا يضر. أمَّا لو جُهِلت عدالة أحدهما أو قال: (أخبرني فلان أو غيرُه)، فلا يُحتج به حينئذ، والله أعلم.
ص:
328 - فَإنْ يَكُنْ مِثْلُ الْإمَامِ الشَّافِعِي ... وَصَفَهُ بِـ "ثِقَةٍ" فَتَابِعِ
الشرح:
أي: إذا قال الشافعي - رضي الله عنه - أو غيره: (أخبرنا الثقة) أو نحو ذلك، فهل الستر فيه باقي لكونه غير معيَّن؟ أو أنه زال بوصفه فيكون كإبهام الصحابي أو أحد العَدْلَين فلا يضر كما سبق ويسميه بعضهم "التعديل المبهم"؟ فيه مذاهب:
أحدها: لا يحتج به. وبه جزم القفال الشاشي والخطيب والصيرفي والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ والماوردي، والروياني قال: وهو كالمرسل. وصححه ابن الصباغ، قال: لأنه ربما لو سماه كان ممن جرحه غيرُه.
بل قال الخطيب: لو صرح بأنَّ جميع شيوخه ثقات ثم روى عمن لم يُسمه، لا يُعمل به.
قال: (نعم، لو قال العالم: "كل مَن أَروي عنه وأُسميه فهو عَدْلٌ رضى مقبولُ الحديث "،
وإنما حذفتُ "النون" في النَّظم من قولي: (يُسَاوُوْا) مع عدم الناصب والجازم اضطرارًا، وإلا فالأصل: "يساوون"، بل ربما حذفت في غير ذلك كما هو مشهور في العربية.
وما قررته في معنى "الواو" هو الصحيح من الأقوال الذي عليه الجمهور ونَصُّ سيبويه إذ قال: (وذلك قولك: "مررت برجُل وحمار" لم تجعل للرجُل منزلة بتقديمك إياه يكون بها أَوْلى مِن الحمار، كأنك قلت: "مررت بهما"، وليس في هذا دليل على أنه بدأ بشيء قبل شيء) (¬1). انتهى
[فَبَيَّن] (¬2) بهذا أنها لمجرد الجمع وأنها كالتثنية لا ترتيب فيها ولا مَعِيَّة.
قيل: ونَص عليه سيبويه في سبعة عشر موضعًا من كتابه.
ونقل الفارسي والسيرافي في "شرح سيبويه" والسهيلي وغيرهم إجماع أئمة العربية عليه وإنْ كان في حكايته الإجماع نظر مع وجود الأقوال الآتية وشهرتها، وحكاه القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية" عن أكثر الأصحاب، وزعم ابن برهان أنه قول الحنفية بأَسْرهم ومعظم أصحاب الشافعي.
وفي إطلاقه ذلك عن الحنفية نظر؛ لِمَا سيأتي.
ثم قال: وهو الذي صَحَّ عن الشافعي؛ فإنه نَص على أنه إذا قال: "هذه الدار وقف على أولادي وأولاد أولادي"، أنهم يشتركون فيه، بخلاف "ثم أولاد أولادي". وإذا قال: "إذا مت فسالم وغانم وخالد أحرار" وكان الثلث لا يَفِي إلا بأحدهم، فإنه يقرع. فلو كانت الواو عنده للترتيب لَقال: يعتق سالم وحده.
ودليل هذا القول موارد استعمالها، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ} [الحديد:
¬__________
(¬1) الكتاب لسيبويه (1/ 437).
(¬2) كذا في (ص، ش). لكن في سائر النُّسخ: فتبين.
وقيل: إنْ فَعَله مرة، فلا يخصص به؛ لاحتمال أنه مِن خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. نقله صاحب "الكبريت الأحمر" عن الكرخي وغيره من الحنفية، قال: فإنْ تَكرر، خُصَّ به إجماعًا.
وقيل: إنْ كان فِعلًا ظاهرًا، خُصَّ به، وإنْ كان مستترًا فلا.
وقيل: إنِ اشتهر كون الفعل مِن خصائصه، لم يُخَص به، وإلا خُصَّ. جزم به سليم في " التقريب".
وقال إلْكِيَا: إنه الأصح. قال: ولهذا حمل الشافعي تزويج ميمونة وهو مُحْرِم على أنه كان مِن خصائصه.
وقيل بالوقف، ونُقل عن عبد الجبار.
وقيل: إنْ كان منافيًا للظاهر، [خُصِّص] (¬1) به، أو موافقًا له فلا. أيْ: ولو في غير ما نحن فيه مِن تخصيص السُّنة بالسُّنة، حتى يجري في تخصيص القرآن بالسُّنة، نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقطع - صلى الله عليه وسلم - سارق رداء صفوان وغيره، فلا تخصص الآية. قاله ابن القطان.
قلتُ: لا معنى لهذا التفصيل؛ لأن التخصيص إنما هو بفعل ينافي العموم، لا أنْ يكون فردًا من أفراده.
وقيل: إنما يكون تخصيصًا إذا عُرِف مِن قوله أنه قصد به بيان الأحكام، نحو: "صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي" (¬2)، "خذوا عني مناسككم" (¬3)؛ لأنه إذا لم يكن كذلك، فقدْ يكون من
¬__________
(¬1) في (ص، ق، ش): خص.
(¬2) سبق تخريجه.
(¬3) سبق تخريجه.
على الرطب. ثم إنِّ الشارع أَرْخَص في جواز بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر، فَقِسْنَا عليه العنب وتركنا القياس الأول؛ لكون الثاني أقوى. فلمَّا اجتمع في الثاني القوة والطريان، كان استحسانًا.
ولكن هذا التفسير يقتضي أن يكون العدول عن حُكم القياس إلى النص الطارئ عليه "استحسانًا"، وليس كذلك عند القائلين به.
وأيضًا فيرجع هذا التفسير إلى تخصيص العلة، وهو ما سبق أنه "النقض"، وليس ذلك مما ينفرد به الحنفية كما سبق بيانه في "باب القياس"، بل يقال: إنَّ حاصل ذلك - كما قاله الآمدي - "الرجوع عن حُكم دليل؛ لطريان دليل آخَر أقوى منه". وهو أَعَم مِن تخصيص العِلَّة.
وقول رابع: أنه العدول عن حُكم الدليل إلى العادة؛ لمصلحة الناس، كدخول الحمام مِن غير تقدير الماء وشُرب الماء من السقاء.
ورُدَّ بأن العادة إنْ ثبت جريانها بذلك في زمنه عليه السلام فهو ثابت بالسُّنة، أو في زمانهم مِن غير إنكار فهو إجماع، وإلا فهو مردود.
وقد اختلف أصحابنا في قرض الخبز على وجهين:
أحدهما: الجواز، وبه قال صاحب "الشامل" و"التتمة" والمستظهري؛ لإجماع أهل الأعصار على فِعله.
الثاني: وهو الأصح عند صاحب "التهذيب": المنع. وما ذُكِر من الإجماع فليس هو إجماع أهل الحل والعقد، بل إجماع العامَّة، ولا اعتبار بهم.
وفيما لو دفع ثوبًا إلى قصَّار ليقصره أو خياط ليخيطه أو جلس بين يدي حلاق ليحلق رأسه، والأصح المنصوص: لا أجرة مطلقًا.

الصفحة 159