كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

وأمَّا "الرسم" فمأخوذ مِن رَسْم الدار، وهو أثَرُها الباقي بَعْد زوالها، وهو ما أنبأ عن الشيء بِلَازِمٍ له مُخْتَصٍّ به، كَـ: (الإنسان حيوان ضاحك)، أَيْ: فيه قوة أنْ يضحك.
فَـ "التام" مِنْهُ: أنْ يُؤتَى بذلك اللازِم مع الجنس القريب، كما مثَّلنا.
و"الناقِص": أنْ يُؤتَى بتلك الخاصَّةِ وَحْدها أو مع الجنس البعيد، نحو: (الإنسان جسم ضاحك).
و"اللفظي" لَفْظٌ مرادِفٌ أَشْهَرُ عند السامع مِن الذي ذَكَره في سؤاله، كَـ: (الخندريسُ: الخمر). ويُسَمى "لفظيًّا"؛ لأنه تعريف المعنَى بلفظٍ لمنْ كان عالِمًا بالمعنى مِن حيث هو مدلول اللفظ الأظهر، وجاهلًا به مِن حيث هو مدلول اللفظ الأخفى.
وقد عُلِمَ بهذا التقرير الفرقُ بين هذا وبين تفسير اللفظ مِن حيث اللغة مثلًا، فإنه قد يَكون لمن لا يَعْرف مدلوله أصْلًا، لا مِن حيث ذلك ولا مِن غَيْره. نَعَم، هو راجِعٌ إلى الرسم؛ فإنَّا عَرَّفْنَا مدلول "الخندريس" (مِن حيث هو مجهول) بمدلول "الخمر" (مِن حيث هو معلوم)، ومدلول "الخمر" خاصّة لمدلول "الخندريس"؛ لأنَّ نِسْبة مدلولية هذا إلى لفظه غَيْرُ مَدلولِيَّة الآخَر إلى لَفْظه، وإنْ كان المدلولان مِن حيث هُما متحدَين؛ ولأَجْل ذلك اقتصر أكثر المناطقة على التعريفين الحَدِّي والرسْمِي، تامَّيْن وناقصين.
قولي: (أَوْ دُونَهُ) أَيْ: دُون التمام فيهما، وهُمَا الناقصان.
وقولي: (إذْ تُطَابِقُ) أَيْ: إذْ تُرِيدُ أنْ تُعَرِّفه بِمُطَابِقٍ لأجزائه، المادِّيِّ منها والصُّورِيِّ.
وقولي: (الناقصان) أَيْ: الحَد والرسم الناقصان ما أنت تارِكٌ فيهما الجنس. فَـ "الجنس" مفعول مُقَدَّم لِـ "تارِك". واللام في "الجنس" للعَهْد، وهو الجنس القريب؛ فَدَخَل في ذلك ما ليس فيه جنس أصْلًا، وما فيه جنس بعيد.
وقولي: (وَشَرْطُ كُلٍّ كَوْنُهُ مُطَّردَا) أَيْ: شَرْط المُعَرِّفات الخمسة الاطِّراد والانعكاس.
كان ذلك تعديلاً لكل مَن رَوى عنه وسماه كما سبق) (¬1).
والثاني: يحتج بذلك مطلقًا؛ لما سبق مِن أن إبهام العدل لا يضر، ونقله ابن الصلاح عن أبي حنيفة.
والثالث: التفصيل بين أن يُعرف مِن عادته إذا أَطْلَق ذلك أن يعني به معيَّناً وهو معروف بأنه ثقة، فَيُقبل، وإلَّا فلا. حكاه شارح "اللمع" اليماني عن صاحب "الإرشاد".
الرابع: وهو الصحيح المختار الذي قطع به إمام الحرمين وجرَيتُ عليه في النَّظم، ونقله ابن الصلاح عن اختيار بعض المحققين أنه إنْ كان القائل لذلك من أئمة الشأن العارفين بما يشترطه هو وخصومه في العدل وقد ذَكَره في مقام الاحتجاج، فيُقبل؛ لأن مِثل هؤلاء لا يُطْلِق في مقام الاحتجاج إلا في موضع يأمَن أن يخالَف فيمن أطلق عليه أنه ثقة.
وإنما أهملتُ في النَّظم ذِكر كوْنه في مقام الاحتجاج؛ لأن هؤلاء الأئمة إنما يذكرون ذلك في مقام الاحتجاج، بخلاف المحدِّث الذي عنايته برواية الحديث فقط.

تنبيهات
أحدها: عاب بعض المتعنتين على الشافعي مثل ذلك، قال: لأنه مُشعر بسوء الحفظ، وأيضًا فهو ضرب من الإرسال، والمرسل عنده غير حجة.
والجواب عن الأول: أنَّ الإمام الحافظ قد يعتريه شك في التعيين مع عدم شَكِّه في عدالته، فيتورع عن التعيين؛ احتياطًا، وقد فعل ذلك الأئمة، فروى مالك في "الموطأ" في باب الزكاة عن الثقة عنده عن سليمان بن يسار.
¬__________
(¬1) الكفاية في علم الرواية (ص 92).
26]، وفي الآية الأخرى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى: 3]، وقال: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: 15]، وقال: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الأحزاب: 7]، وقال تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7]، فالرد بُعيد إلقائه في اليَم، والإرسال وقع متراخيًا، فإنه على رأس أربعين سَنة.
القول الثاني: إنها للترتيب. قاله ابن عباس، فأسند إليه ابن عبد البر في "التمهيد": (ما ندمت على شيء لم أكن عملت به ما ندمت على المشي إلى بيت الله أن لا أكون مشيت؛ لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين ذكر إبراهيم وأُمر أن ينادي في الناس بالحج: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (¬1)، فبدأ بالرجال قبل الركبان) (¬2).
وإلى هذا القول ذهب من أهل العربية من الكوفيين ثعلب والفراء وهشام وأبو عمر الزاهد على ما نقله الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة".
لكن في كتاب أبي بكر الرازي: (قال لي أبو عمر غلام ثعلب: "الواو" عند العرب للجمع لا للترتيب، وأخطأ مَن قال: إنها للترتيب) (¬3). انتهى
ومن البصريين قطرب وعلي بن عيسى الربعي وابن درستويه، وعُزي للشافعي، فذكر بعض الحنفية أنه نَص عليه في كتاب "أحكام القرآن"، وبعضهم أخذه من لازِم قوله في اشتراط الترتيب في الوضوء والتيمم ونحو ذلك.
والحقُّ أنه ليس مستدركه في ذلك "الواو"، بل الترتيب عنده بدليل آخَر، وهو قطع النظير
¬__________
(¬1) [الحج: 27].
(¬2) التمهيد (2/ 84).
(¬3) الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص (1/ 86).
خصائصه، كنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال ثم واصل، ثم قال: "إني لست كأحدكم" (¬1). فَبَيَّن أنه يفعل مُريدًا به بيان حُكمهم وإلا فينبههم على اختصاصه بذلك.
نعم، محل كونه تخصيصًا ما إذا كان العموم شاملًا له وللأُمة بتحريم شيء مَثلًا ثم يفعل الفعل المنهي عنه وهو مما لا يجب اتِّباعه فيه إما لكونه مِن خصائصه أو غير ذلك.
أما إذا أوجبنا التأسي به فيه، فيرتفع الحكم عن الكل، وذلك نَسخ، لا تخصيص.
وأما إذا كان العموم للأُمَّة دُونه، فَفِعله ليس بتخصيص، لعدم دخوله في العموم.
وقد مُثِّل ذلك بالنهي عن استقبال القبلة واستدبارها، ثم جلس في بيت حفصة مستقبل بيت المقدس (¬2). فعَلَى القول بأن النهي شامل للصحراء والبنيان فيحرم فيهما وبِه قال جمعٌ: يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - خُصَّ بذلك، وخرج من عموم النهي.
فإنْ قُلنا: إنه - صلى الله عليه وسلم - ليس مختصًّا بذلك، فالتخصيص للبنيان مِن العموم سواء هو والأُمَّة في ذلك.
ومثاله في جانب التَّرْك:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم". ثم إنه رجم ماعزًا والغامدية مِن غير جَلد. لكن ليس هذا من باب التخصيص؛ لأنه رَفْع لأحد أمرين منصوصين، فيكون نَسخًا، لا تخصيصًا.
¬__________
(¬1) مسند الإمام أحمد (رقم: 4752)، سنن الترمذي (رقم: 778)، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 778).
وفي صحيح البخاري (رقم: 1860) بلفظ: (لسْتُ كَأَحَدٍ مِنكمْ). وفي صحيح مسلم (1102) بلفظ: (إني لست كهيئتكم).
(¬2) صحيح البخاري (رقم: 147، 148).
وقيل: تجب أجرة المثل؛ للعادة. وقيل غير ذلك.
فمَن اعتبر المسائل، وَجَد أنَّ ما أجمعوا عليه فَلَهُ مَأْخَذ، وما اختلفوا فيه فاختلافهم في مأخذه.
وقيل في تفسيره أيضًا غير ذلك، وقد ظهر أنه لا يتحقق "استحسان" مختلف فيه.
فإنْ تحقق استحسان مختلَف فيه فمَن قال به فَقَدْ شَرَّع كما قاله الشافعي فيما سبق نقله عنه.
ويقال للقائلين به: إنْ عنيتم ما يستحسنه المجتهد بِعَقْله مِن غير دليل (كما حكاه بشر المريسي والشافعي عن أبي حنيفة وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: إنه الصحيح في النقل عنه) فأمر عظيم وقول في الشريعة بمجرد التشهي، وتفويض الأحكام إلى عقول ذوي الآراء، وقد قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]. ولكن أصحابه ينكرون هذا التفسير عنه.
وإنْ عنيتم جواز لفظ "الاستحسان" فقط فلا إنكار في ذلك؛ فإن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، وفي الحديث: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن" (¬1). فالكتاب والسُّنة مشحونان بنحو ذلك، لكنكم لا تقصدون هذا المعنى، فليس لكم أن تحتجوا بمثله على "الاستحسان" بالمعنى الذي تريدونه مما سبق. على أنَّ هذا الحديث رواه أحمد والدارمي عن ابن مسعود موقوفًا عليه، ومَن رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخطأ، ورفعه من حديث أَنَس إسناده ساقط لا يُحتج به. وعلى تقدير صحته فالمراد
¬__________
(¬1) هو من قول ابن مسعود - رضي الله عنه - في: مسند الإمام أحمد بن حنبل (رقم: 3600)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 4465)، وغيرهما. قال الحافظ ابن حجر في (الدراية في تخريج أحاديث الهداية، 2/ 187): (لم أَجِدهُ مَرْفُوعًا، وَأخرجه أَحْمد مَوْقُوفًا عَلَى ابْن مَسْعُود بِإسْنَاد حسن).

الصفحة 160