ومعنى كَوْن التعريف مُطَّرِدًا: أنْ يوجَد بوجودِه المُعَرَّف، فلا يُعَرَّفُ الإنسانُ بأنه "جِسْم نامٍ حَسَّاسٌ"؛ لوجود الحدِّ في الفرس ولا مَحْدُودَ (¬1).
ومعنى كَوْنه منعكسًا: أنْ يَنتفي المُعَرَّف بانتفائه، فلا يُعَرَّف الإنسانُ بِـ "الكاتِب بالفعل"؛ لانتفاء الحَدِّ في الأُمِّي دُون المَحْدُود (¬2). وكذا في اللفظي لا يُؤتَى بِلَفْظٍ أَعَم (فيوجَد ولا محدود) ولا أخَصّ (فينتفي والمحدود موجود). ولكن هذا مفهوم مِن قولهم: (مرادِف). وربما عُبِّر عن هذا الشرط بِـ "المساواة في العموم والخصوص".
وقولي: (وَالمَنْعُ فَالْجَمْعُ بِذَيْنِ عُرِّفَا) مِن باب اللف والنشر المُرَتَّب، أَيْ: ربما عُرِّفَ كَوْن التعريف مانعًا بِكَوْنه مُطَّردًا، وكَوْنه جامِعًا بِكَوْنه منعكسًا، [أيْ: عُبِّرَ عنهما بذلك] (¬3)؛ لِمَا قَرَّرْناه في تفسيرهما الملائم للتسمية بكُل مِن ذلك. وَوَهِمَ القرافي فَعَكَسَ ذلك، فجعَل الجامِع هو المُطَّرِد، والمانِع هو المنعكس، وهو بعيد المناسبة، ومخالِف للاصطلاح، والله أعلم.
النَّظَر
73 - وَ"النَّظَرُ": الْفِكْرُ الَّذِي يُؤَدِّي ... لِلْعِلْمِ أَوْ لِلظَّنِّ لَا [لِلضِّدِّ] (¬4)
74 - ومِنْهُ مَا مَضَى مِنَ التَّرْتِيبِ ... فِي "الْحَدِّ" وَ"الدَّلِيلِ" بِالتَّقْرِيبِ
¬__________
(¬1) "لا محدود" يعني: لا يوجد إنسان؛ لأن "المحدود" هو الإنسان، فهو الذي يُراد تعريفه.
(¬2) لأنَّ الحد (وهو: الكاتب بالفعل) مُنْتَفٍ في الإنسان الأُمِّي، لكنه إنسان، فالمحدود (وهو الإنسان) موجود.
(¬3) من (ز).
(¬4) كذا في (ز، ص، ق، ن 3، ن 4، ن 5). لكن في (ض، ت، ش، ن 1، ن 2): لضد.
وعن الثاني: بأنه قد استُقرئ عليه أنه لم يُبْهِم ذِكر الراوي إلا في حديث معروفٍ عند أهل الحديث براوٍ معلوم الاسم والعدالة، فلا يضره تركُه تسمية الشيخ.
قال الرافعي في "شرح المسند": (ولك أن تقول: المحتاج للوضوء إذا قال له مَن يَعرفه بالعدالة: "هذا الماء نجس بسبب كذا"، يَلْزَمه قبوله. ولو قال له مَن هو مِن أهل التعديل: "أخبرني عدلٌ بذلك"، ولم يُسَم، فيشبه أن الحكم كذلك). انتهى
وهذا الجزم مؤيد لِمَا قُلناه، ويؤيد ذلك أنَّ الحديث إذا رُوي عن رجل من الصحابة، يُحتج به ولا يُعَد مرسلًا وإنْ لم يكن الصحابي معيَّنًا كما سبق؛ للعِلم بعدالة الكل.
الثاني: إذا قال: (أخبَرني مَن لا أتهم) كما يقع في كلام الشافعي- رحمه الله- كثيرًا، كان دُون: (أخبرني الثقة). فقال الحافظ الذهبي: ليس مِثله فيما سبق؛ لأنه نفَى التهمة ولم يتعرض لإتقانه ولا لكونه حجة.
ورجَّح غيره أنه مِثله؛ لأنَّ ذلك إذا وقع مِن مِثل الشافعي في الاحتجاج، فإنما يريد به ما يريد بقوله: ثقة.
على أنَّ الذهبي قد سُبق بذلك مِن فحول أصحابنا، ففي كتاب "الدلائل والأعلام" للصيرفي: إذا قال المحدث: "حدثني الثقة عندي" و"حدثني مَن لا أتهم"، لم يكن حجة؛ لأنَّ الثقة عنده قد لا يكون ثقة عندي. وذكر نحوه الماوردي والروياني في القضاء.
فاقتصار السبكي في "جمع الجوامع" على الذهبي قصورٌ، إلا أنْ يريد أنَّ الذهبي يفرق بين "ثقة" و"لا أتهم" وهؤلاء يخالفون فيهما معًا كما أوضحناه عند حكاية المذاهب.
نعم، قول الصيرفي: (حدثني الثقة عندي) يقتضي التصوير [بِقَيد] (¬1) "عندي"، حتى لو قال: (الثقة) وأَطْلَق، لا يكون كذلك.
¬__________
(¬1) في (ز): بثقة.
عن النظير وإدخال الممسوح بين المغسولين، والعرب لا تفعل ذلك إلا إذا أرادت الترتيب.
نعم، هو وجه لأصحابنا حكاه الماوردي في "باب الوضوء" عن جمهورهم، وكذا الصيدلاني في "شرح المختصر"، قال: وقولنا: إن "الواو" للترتيب هو قول أبي عبيد والفراء وغلام ثعلب.
وفي "الأساليب" لإمام الحرمين أنه صار إليه علماؤنا، وفي "البرهان" له أنه الذي اشتهر عن أصحاب الشافعي (¬1)، ونصره الشيخ أبو إسحاق في "التبصرة"، وجزم به ابن سريج في "الودائع"، وقال: إنه لا خلاف فيه بين أهل اللغة.
وقال بعض المحققين من شيوخنا: إن الذي يظهر من تَصرُّف الشافعي أن إفادة "الواو" للترتيب ليس لغةً، بل مِن عُرف الشرع، فهو حقيقة شرعية، لا لغوية، ويدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج من باب الصفا وهو يريد الصفا: "نبدأ بما بدأ الله به" (¬2). أي: شرعنا دائمًا أن نبدأ بذلك، فهو عام وارِد على سبب خاص، فكل موضع وقع فيه التردد فإنما يحمل على الشرعي، وحينئذٍ فإطلاق كثير من أصحابنا الترتيب ونقلهم ذلك عن مذهب الشافعي إنما مرادهم ذلك، وبه يجتمع الكلام ويرتفع الخلاف.
وأما النقل عن اتفاق أئمة اللغة ذلك كما سبق ففيه منازعة.
فقد قال ابن الأنباري في مصنفه المفرد في هذه المسألة: إن ما نقل عن ابن درستويه والزاهد وابن جني وابن برهان والربعي من أنها للترتيب فليس بصحيح، وكتبهم تنطق بضد ذلك.
ثم ذكر كلام عَلي الربعي في "شرح كتاب الجرمي"، وهو أنه قال: إن "الواو" للجمع
¬__________
(¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 137).
(¬2) صحيح مسلم (1218)، سنن أبي داود (1905)، سنن الترمذي (2967)، وغيرها.
ومُثِّل أيضا بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد العصر، ثم صلَّى ركعتين بعد العصر، ولكن لها سبب؛ فحصل التخصيص.
الضرب الثالث:
التخصيص بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدًا مِن المكلفان على خِلاف مُقْتَضَى العام، فهل يكون مخُصِّصًا إذا وُجِدت شرائط التقرير فيه؟
فإنْ كان قَبْل دخول وقت العمل به ولم تَثبت مساواة الذي قرره لغيره، كان تخصيصًا.
وإنْ ثبتت المساواة لجميع ما دل عليه الكلام أو كان بعد دخول وقت العمل، كان نَسخًا.
ومَثَّل الأستاذ أبو منصور ما يكون تخصيصًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سقت السماء العشر" وتَرْك - صلى الله عليه وسلم - أَخْذ الزكاة من الخضراوات.
قال ابن القطان: (وكذا تقريره على ترك الوضوء لِمَن نام قاعدًا).
نعم، التخصيص بالتقرير هل هو تخصيص بنفس تقريره؟ أو بما تضمنه مِن سَبْق قول به فيكون مُستدلًّا بتقريره على. أنه قد خُص بقول سابق؛ إذ لا يجوز لهم أن يفعلوا ما فيه مخالفة للعام إلا بإذن صريح، فتقريره دليل ذلك؛ وجهان حكاهما ابن القطان وإلْكِيَا.
قال ابن فورك والطبري: إن الظاهر الأول.
وكذا مُقْتَضَى كلام ابن القطان ترجيحه، وحينئذٍ فتكون صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا دليلًا على أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلي الإمام قاعدًا فصلوا قعودًا" (¬1) على أنهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك وينتقلوا عن الحالة الأُولى إلا بشيء مُتقدِّم. وليس ذلك نقلًا عن الحال، إنما هو بناء على ما
¬__________
(¬1) صحيح مسلم (411)، وبنحوه في صحيح البخاري (1063).
به إجماع الأُمة ورأيهم حُسْنه بالدليل الذي قام لهم.
وقولي: (وَفي عِبَارَةِ الْإمَامِ الشَّافِعِيْ) إلى آخِره - إشارة إلى أن لفظ "الاستحسان" وقع في كلام الشافعي كثيرًا غَيْر مراد به المعنى الذي سبق، بل أصل معناه الشائع في اللغة المأخوذ مِن لفظ "الحسن". فمِن ذلك قول الشافعي - رضي الله عنه -: "مراسيل ابن المسيب عندنا حسنة". وقال: "أَسْتَحْسِن في المتعة أن تكون ثلاثين درهمًا"، و: "أَسْتَحْسِن أنْ تثبت الشفعة للشفيع إلى ثلاثة أيام"، و: "أستحسن أن يترك للمكاتب شيء مِن نجوم الكتابة"، و: "حسن أن يضع إصبعيه في صماخي أُذنيه إذا أذَّن".
وقال الغزالي: استحسَن الشافعي التحليف على المصحف.
وقال الرافعي في التغليظ على المعطل في اللعان: (أستحسن أن يحلف ويقال: قل بالله الذي خلقك ورزقك) (¬1).
وقال القاضي الروياني فيما إذا امتنع المدِّعي من اليمين [المردودة] (¬2) وقال: "أمهلوني؛ لأسأل الفقهاء": اسْتَحْسَن قضاة بلدنا إمهاله يومًا.
وقال أبو الفرج السرخسي في تقدير نفقة الخادم على الزوج المتوسط: استحسن الأصحاب أن يكون عليه مُد وسدس بتفاوت المراتب في حق الخادمة.
فإنَّ الموسر عليه لها مُد وثلث، والمعسر مُد، فليتوسط في المتوسط كما تفاوتت المراتب في حق المخدومة.
وقال الأصحاب: ليس لِوَلي المجنونة والصبية المراهقة إذا آلَى عنها الزوج وضربت المدة وانقضت أنْ يطالبه بالفيئة؛ لأنَّ ذلك لا يدخل في الولاية، وحسن أن يقول الحاكم للزوج
¬__________
(¬1) العزيز شرح الوجيز (9/ 403).
(¬2) في (ق): المردوة عليه.