الشرح: هذا هو الثالث مِن الأربعة الموعود ببيانها في المقدمة.
و"النظر" لُغَةً: يُطْلَق على الانتظار، وعلى رؤية العَيْن، وعلى الإحسان، وعلى المقابَلَة، وعلى الاعتبار.
وأمَّا في الاصطلاح: فَمَا ذَكَرْناه، وهو: فِكْرٌ يُطْلَبُ به عِلْمٌ أو ظَنٌّ.
وتعبيري في النَّظْم بالمُعَرَّف باللام في الثلاثة؛ للسهولة فيه، وإلَّا فلا ينبغي أنْ يُؤْتَى بها كما قررناه في تعريف "الفقه". وهذا التعريف للقاضي أبي بكر.
فَـ "الفِكْر" كالجنس، ويُطْلَق على ثلاثة معانٍ: حركة النَّفْس بالقوة التي آلتها مُقَدَّم البطن الأوسط مِن الدماغ إذَا كانت تلك الحركة في المعقولات. فإنْ كانت في المحسوسات، سُمِّيَت "تَخَيُّلًا".
والثاني (وهو أَخَص مِن الأول): حركتها مِن المطالب إلى المبادئ، ورجوعها مِن المبادئ إلى المطالب.
ويُرْسَم "الفِكْر" بهذا المعنى بِـ "تَرْتيب أمورٍ حاصلة في الذِّهْن؛ لِيُتَوَصَّل بها إلى تحصيل غَيْرِ الحاصل".
والثالث: إطلاقه على جُزْء الثاني، وهو الحركة مِن المطالب إلى المبادئ، وإنْ كان الغرض منها الرجوع. وهذا هو الذي يُستعمل بإزائه "الحدْس" كما تَقَدَّم وهو سرعة الانتقال مِن المبادئ إلى المطالب.
وقوله: (الذي يُطْلَبُ به عِلْمٌ أو ظَنٌّ) هو "الفِكر" بالمعنى الثاني، فيخرج "الفِكر" بالمعنى الأول والثالث.
وعُلِم مِن قوله: (يُطْلَبُ به) أنه متضمن لمبادٍ وأنها [مَعْلُومَة] (¬1)؛ لأنَّ الطَّلَب مِن
¬__________
(¬1) كذا في (ز، ت). لكن في (ض، ص): تعلق به. وفي (ش): يتعلق به. وفي (ق): معلق مة.
الثالث: قال ابن الصباغ في "العدة": إنَّ الشافعي إنما يُطْلق ذلك في ذِكره لأصحابه أنَّ الحجة عنده على هذا الحكم، لا في مقام الاحتجاج به على غيره. وكذا قال القاضي أبو الطيب، قال: وقيل: إنه كان قد أَعْلَم أصحابه بذلك؛ ولهذا قيل في بعضهم: إنه أحمد، وفي بعضهم: يحيى بن حسان، وفي بعضهم: ابن أبي فديك وسعيد بن سالم القداح، وغيرهم.
وقال الماوردي والروياني: (اشتهر عنه أنه يعني به إبراهيم بن إسماعيل) (¬1).
وقال ابن برهان: قيل: إنه كان يريد به مالكًا، وقيل: مسلم بن خالد الزنجي، إلا أنه كان يرى القدَر، فاحترز عن التصريح بِاسْمه؛ لهذا المعنى.
وقال أبو حاتم بن حبان: إذا قال الشافعي: "أخبرني الثقة عن ابن أبي ذئب" فهو ابن أبي فديك، أو: "عن الليث" فهو يحيى بن حسان، أو: "عن الوليد بن كثير" فهو [أبو أسامة، أو: "عن الأوزاعي" فهو] (¬2) عمرو بن أبي سلمة، أو: "عن ابن جريج" فهو مسلم بن خالد الزنجي، أو: "عن صالح مولى التَّوْأَمَة" فهو إبراهيم بن أبي يحيى.
وأمَّا مالك فقال بعضهم: إذا قال: (عن الثقة -عنده- عن بكير بن عبد الله ابن الأشج)، فهو مخرمة بن بكير، أو: (عن عمرو بن شعيب) فقيل: عبد الله بن وهب، وقيل: الزهري.
وفي "المعرفة" للبيهقي (¬3) في "باب الاستسقاء" عن الربيع: إذا قال الشافعي: (أخبرنا الثقة) فهو يحيى بن حسان، وإذا قال: (مَن لا أتهم) فهو إبراهيم بن أبي يحيى، وإذا قال: (بعض الناس) فهو يريد أهل العراق، وإذا قال: (بعض أصحابنا) فيريد أهل الحجاز.
¬__________
(¬1) الحاوي الكبير (16/ 93).
(¬2) تصحيح مِن هامش (ت)، وهذه العبارة مُثْبَتة في بعض كُتب المصطلح التي نَقَلَت هذا النَّص.
(¬3) معرفة السنن والآثار (3/ 114 - 115).
على مذهب النحويين والفقهاء إلا الشافعي.
قال: ولقوله وَجْه.
ولكن هذا يدل على تقويته في الجملة، لا أنه مُختاره.
وقال ابن مالك في "شرح الكافية": (زعم بعض الكوفيين أنها للترتيب، وعلماء الكوفة بُرآءمن ذلك) (¬1).
وبالجملة فقد استُدل لقول الترتيب بنحو قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)} [الزلزلة: 1 - 2].
لكن لا دلالة في ذلك، غايته أنها استُعملت في الترتيب، وليس ذلك بلازم، كما استعملت في عكسه، نحو: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] والنذر قبل العذاب؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
ومن حجج الترتيب أيضًا ما في "البخاري" عن البراء قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله، أُقاتل وأُسلم؟ قال: أَسلم ثم قاتِل. فأَسلم ثم قاتَل، فقُتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمل قليلًا وأُجِرَ كثيرًا" (¬2).
و[يجاب] (¬3) عنه بأنه قال له ذلك خوفًا أن يختار من الأمر المحتمل المقاتلة قبل الإِسلام فيُقتل كافرًا، والمبادرة للإسلام واجبة، لا من حيث إفادة "الواو" الترتيب.
¬__________
(¬1) شرح الكافية الشافية (3/ 1206).
(¬2) صحيح البخاري (رقم: 2653).
(¬3) في (ق): أجيب.
كانوا عليه، ويتوصل بالحال إلى العِلم به.
قولي: (سُنَّةً بِهَا يُخَصُّ حَيْثُ أُطْلِقَتْ فَعَمَّهَا) أي: عَمَّ الأمور الثلاثة (القول والفعل والتقرير) سُنَّةٌ يُخص بها عموم السُّنة. فحيث أطلقت "السُّنة" كانت شاملة للثلاثة؛ فإنَّ لفظ "السُنَّة" يعمها وَيصْدُق عليها.
وقولي: (فَعَادَةً قرَّرَهَا مُخَصِّصَهْ) إلى آخِره -إشارة إلى بيان حُكم الضرب الرابع وهو ما إذا اطَّلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على عادة اطردت في زمانه وأقَرها ولم يُنكرها ولكن تلك العادة مخالفة لبعض ما دخل في عموم سُنَّة أخرى، فإنَّ ذلك يكون تخصيصًا.
وأشرتُ بعطف ذلك بِـ "الفاء" إلى أنه مُرتَّب على ما قَبله؛ لرجوعه إلى التخصيص بالتقرير.
واعْلَم أنَّ في هذا الضرب اضطرابًا شديدًا يظهر ذلك بما نذكره مِن الأحوال في تصويره المحتملة فيه:
فأحدها: أنْ يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجبَ أشياء أو حَرَّمها بلفظ عام، ثم تجري عادة بعد ذلك بترك بعض ما أوجب أو بفعل بعض ما حرم.
فقال الإمام الرازي وأتباعه: إنها تخصيص إذا عَلِم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يُنكرها ولا منعها.
قال في "المحصول": (فأما إذا عُلِم جريانها مِن بَعْده - صلى الله عليه وسلم -، فإنها لا تُخصِّص إلا أنْ يُجمَع على فِعلها؛ فيكون تخصيصًا بالإجماع الفعلي) (¬1).
أي: والتخصيص بالإجماع -كيف كان- جائز كما سيأتي.
وعلى هذا جريتُ في النَّظم بقولي: (فَعَادَةً قَرَّرَهَا مُخَصِّصَهْ).
¬__________
(¬1) المحصول (3/ 132).
على سبيل النصيحة: اتق الله، فِئْ [إليها] (¬1) أو طَلِّقها.
فإنْ قيل: فقد قال الشافعي وأصحابه بصريح "الاستحسان" في مواضع، فقال الشافعي في السارق إذا أخرج يده اليسرى بدل اليمنى: القياس أنْ تقطع يمناه، والاستحسان أنْ لا تقطع.
وقال الأودني في اختلاف الأصحاب في مسألة الجارية المغنية تساوي ألفًا وبالغناء ألفين: كل هذا استحسان، والقياس الصحة.
فنقل الأودني عن الأصحاب وغيره ذلك.
قيل: أما الشافعي فإنه إنما قضى على مَن يحتج بالاستحسان بأنْ لا تقطع، فهو إلزام لقائله، لا قول به. وقول الأودني: (كل هذا استحسان) فإنه ردٌّ على مَن قال بخلاف الصحة في الحقيقة؛ ولذلك كان هو الأصح في المذهب.
وقال الإمام: (إنه القياس السديد) (¬2).
والأودني يقول: "إن الذي يقولونه استحسان؛ فَيُرَد"، وهُم قد يقولون: لَمْ نَقُلْه بالاستحسان كما فهمه الأودني عنا.
وبالجملة فوقوع هذا اللفظ ليس بمستنكَر، إنما المستنكر إطلاقه بالمعنى الذي قصدوه. والله أعلم.
¬__________
(¬1) في (س، ت): لها.
(¬2) نهاية المطلب (13/ 203).