المجهول مُحَال، ومُتضمن لِمَا يَقَع به الطَّلَب وهو ترتيب تلك المبادئ. وهو معنى قولي: (ومِنْهُ مَا مَضَى مِنَ التَّرْتِيبِ) أَيْ: في الكلام على "الدليل" وعلى "المُعَرِّفات"، فإنَّ المطلوب أَعَم مِن أنْ يَكون تَصَوُّرًا أو تصديقًا.
وقوله: (عِلْم أو ظن) يدل على عدم حصولهما، وإلَّا لكان تحصيل الحاصِل، وهو معنى قول الحكماء: (إلى تحصيل ما ليس بحاصِل).
ويخرج بذلك حديث النفْس الذي لا يؤدي لِعِلْم ولا لِظَن.
وهنا أسئلة وشكوك جدواها قليل، فلا حاجة للتطويل بها، والله أعلم.
الحُكْم
75 - وَ"الْحُكْمُ" في الشَّرْعِ: خِطَابُ اللهِ ... عُلِّقَ بِالْفِعْلِ بِلَا اشْتِبَاهِ
76 - مِنَ الْمُكَلَّفِ اقْتَضَى أَوْ خَيَّرَا ... وَمَا أَتَى وَضْعًا يَكُونُ خَبَرَا
77 - وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِذِي تَكْلِيفِ ... فَافْطَنْ لِمَا ضُمِّنَ فِي التَّعْرِيفِ
الشرح: هذا هو الرابع مِن الأربعة، وهو الثالث مما استُمِدَّ أصول الفقه مِنْه كما سبق.
و"الحُكْم" الشرعي الإنشائي: هو خِطاب الله المُتَعَلِّق بِفِعل المُكَلَّف اقْتِضَاءًا أو تَخْيِيرًا.
وإنما قلتُ: (الإنشائي) لأنَّ الوضعي سيأتي الخلاف في كَوْنه حُكْمًا أو لَا (لِكَوْنه خَبَرًا)؛ ولذلك لمْ أُقَيِّده في النَّظْم؛ لأنَّ الكلام هنا في الإنشائي، وسيأتي التنبيه على الوضعي.
فَـ "خِطَاب" جِنْسٌ، وهو مَصْدَر "خاطَب"، لكن المراد به هنا الكلامُ المخاطَبُ به، لا مَعْنَى المصدر الذي هو توجيه الكلام لِمُخَاطَب.
ثم قال الحاكم: إنَّ الربيع إنما ذكر الغالب، فإنَّ أكثر ما رواه الشافعي عن الثقة هو يحيى ابن حسان، وقد قال في كُتبه: (أخبرنا الثقة)، وهو يريد به غير يحيى بن حسان.
قال البيهقي: (وقد فصَّل ذلك شيخنا الحاكم تفصيلًا على غالب الظن، فقال بعض ما قال: "أخبرنا الثقة" إنه أراد إسماعيل بن عُلية، [وفي بعضها أراد أسامة] (¬1)، وفي بعضها عبد العزيز بن محمد، وفي بعضها هشام بن يوسف الصنعاني، وفي بعضها أحمد بن حنبل، أو غيره من أصحابه، ولا يكاد يُعْرف ذلك باليقين، إلَّا أن يكون قيَّد كلامه في موضع آخَر) (¬2). انتهى
وإنما أطلتُ في هذا لاحتياج الشافعية لمثله، والله أعلم.
ص:
329 - وَلَيْسَ يُحْتَجُّ بِمَا قَدِ انْقَطَعْ ... سَنَدُهُ؛ لِجَهْلِ مَنْ [مِنْهُ] (¬3) ارْتَفَعْ
الشرح:
أي: إذا عُرف أنه لا بُد من تحقُّق شروط الراوي فالحديث المنقطع -الذي قد سقط منه الراوي- ليس بحجة؛ للجهل بحاله.
والانقطاع في سند الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربان: أحدهما: سقوط راوٍ فأكثر ممن هو دون الصحابي.
والثاني: سقوط الصحابي.
¬__________
(¬1) ليس في (ص).
(¬2) معرفة السنن والآثار (3/ 115).
(¬3) في (ن 1، ن 3، ن 4): فيه.
ومنها حديث الخطيب: "قُل: ومَن يطع الله ورسوله" (¬1).
ولا حُجة فيه؛ لأنه إنما نهاه لأن الأدب أن لا يجمع بين اسم الله وغيره في ضمير، كما في قوله: "وصدق الله ورسوله"، ولم يَقُل: وصَدَقَا.
وكذا لا حُجة لهم في الترتيب بنحو: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277]، حيث رتب العمل على الإيمان؛ لأن ذاك ليس من "الواو"، بل لكونه لا يصح بدونه، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112].
القول الثالث في "الواو": إنها للمعية، واستعمالها في غير ذلك مجاز. ويُنسب لبعض الحنفية.
نعم، أنكره ابن السمعاني وغيره.
ونسبه بعضهم لأبي يوسف ومحمد؛ أَخْذًا مِن قولهما فيما لو عقد لأختين على رجُل من غير إذنه: إن أجاز نكاحهما معًا، بطل فيهما، أو إحداهما ثم الأخرى، بطل في الثانية، فإن قال: "أجزت نكاح فلانة وفلانة" فهو كما لو أجاز نكاحهما معًا.
ومن قولهما في "إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق": يقع الثلاث. وعند أبي حنيفة واحدة.
ونُسب هذا القول أيضًا للشافعي في "القديم" ولمالك حيث قالا في غير المدخول بها: لو قال لها: "أنت طالق وطالق وطالق"، يقع الثلاث.
الرابع: إنها للترتيب حيث يستحيل الجمع، كقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]. حكاه بعضهم عن الفراء، وقال المراغي: لم أره في كتابه، ولو صح عنه، رجع إلى
¬__________
(¬1) كذا في جميع النُّسخ، ولفظ الحديث في (صحيح مسلم، 870): "قُل: ومَن يَعْصِ الله ورسوله".
الثانية: أن تتقدم عادة في فِعل شيء على ورود عام شامل له ولغيره، فلا يكون العام منصرفًا إلى المعتاد فقط مخصَّصًا به، بل هو على عمومه فيه وفي غيره، إلا أن ذلك الذي جرت به العادة مراد قطعًا، وإنما الكلام في غيره.
وهذه التي قال الآمدي وابن الحاجب فيها: إن الجمهور على أن العادة تتناول بعض خاص ليس بمخصص، خلافًا للحنفية. مثل ما لو قال الشارع: (حرمتُ الربا في الطعام) وعادتهم تناول البُر، فيجري اللفظ على عمومه في كلِّ طعام.
وعليه يُحمل إطلاق الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وابن السمعاني وغيرهما أنَّ العادة لا تُخصِّص.
قال الهندي بعد أن ذكر هاتين الحالتين: (إنَّ الحقَّ في هذه أنها لا تُخصص) (¬1).
وحينئذٍ فمَن ادَّعى أن مسألة "المحصول" ومسألة الآمدي وارِدتان على محل واحد حتى حاول الجمع بين كلاميهما (إمَّا بأنَّ مَن قال: "تُخصِّص" أراد أنه إذا قررها - صلى الله عليه وسلم -، ففي الحقيقة تقريره هو المخصِّم، ومَن قال: "ليس بمخصِّص" أراد إذا لم يطَّلع عليها ويقررها، أو بغير ذلك) ليس بِمُسلَّم، والصواب: أنهما مسألتان.
وممن صرح بأنهما لا تعلُّق لإحداهما بالأخرى: القرافي في "شرح التنقيح".
وممن صرح في الحالة الثانية بأن العادة لا تُخصص مِن أصحابنا: أبو حامد وسليم والصيرفي، وابن القشيري، قال: خلافًا لأبي حنيفة. لكن قال الشيخ أبو حامد: يجب الأخذ بالخبر واطِّراح العادة بلا خلاف.
وقال إمام الحرمين في "النهاية" في باب الزكاة في أنه يجب في خمس من الإبل شاة وأنه مُخيَّر بين غنم البلد وغيرها: (إنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "في خمس شاة"، واسم الشاة يقع عليهما جميعًا،
¬__________
(¬1) نهاية الوصول (5/ 1760).
ص:
903 - وَ"شَرْعُ مَنْ مَضَى وَلَمْ يُقَرَّرِ ... في شَرْعِنَا لَيْسَ بِذِي تَقَرُّرِ
الشرح:
مِن الأدلة المختلف فيها أنَّ ما ثبت في شرع مَن مَضَى من الأنبياء السابقين على بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هل يكون شرعًا لنا حتى يُستدل به في أحكام شرعنا إذا لم نجد دليلًا يُقَرره ولا وَرَدَ ما يَنْسخه؟ أو ليس بشرعٍ لنا حتى يأتي في شرعنا ما يقرر ذلك الحكم؟ قولان.
وأصل الخلاف ما قال إمام الحرمين: إنه يجري مجرى التواريخ أنَّ نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هل كان متعبدًا بشرع مَن قَبْله مِن الأنبياء قبل النبوة؟ وهل كان متعبدًا بذلك بعد النبوة؟
فأما الأُولى:
فالمختار فيها عند ابن الحاجب والبيضاوي: نعم.
قال ابن الحاجب: للأحاديث المتظافرة: "كان يخلو بغار حراء"، "كان يصلي"، "كان يطوف".
قيل: لا يحفظ مِن ذلك إلا حديث أنه "كان يتحنث بغار حراء" (¬1). رواه البخاري.
ثم اختُلف في تعيينه:
فقيل: بشرع آدم. وقيل: نوح. وقيل: إبراهيم. وقيل: موسى. وقيل: عيسى.
وقيل: ما ثبت أنه شرع، من غير تخصيص.
ومقابِله ما نقله القاضي أبو بكر عن جمهور المتكلمين أنه لم يكن متعبدًا بشرع أحد
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 3)، صحيح مسلم (165).