نَعَم، في تسمية الكلام في الأزَل "خِطَابًا" خِلَافٌ لَمْ يُرَجِّح ابنُ الحاجب منه شيئًا، ورَجَّح القاضي المنع، وجَرَى عليه الآمدي؛ لِعَدَم المخاطَب حينئذ، بِخِلَاف تسميته في الأزَل "أَمْرًا" و"نَهْيًا" ونحوهما؛ لأنَّ مِثْله يَقُوم بِذَات المتكَلِّم بِدُون مَن يتعلق به، كما يُقال في المُوصِي: (أَمَر في وصيته ونَهَى)، ولا يُقال: (خاطَبَ). وعلى هذا فينبغي التعبير بِـ "الكلام " لا بِـ "الخطَاب"، إلَّا أنْ يُراد باعتبار القوة والتهيُّؤ مَجَازًا، وقرينته العِلْمُ بِكَوْن الأزَل لا مُخَاطَب فيه؛ فَتَعَذَّرَت الحقيقة. بل ولو وُجِدَ المُخَاطَب، لا يَحْصُل الخطاب إلَّا بإسماعه ما خُوطِبَ به:
- إمَّا بإسماع الخطاب القديم إذَا جَوَّزْنَا ذلك - عَلَى مَعْنَى قوة سمعيَّة يُدْرِكَ بها القديم على الوجه اللائق، وهو قَوْل أهل السُّنَّة، كما في إسماع موسى عليه السلام.
- وإمَّا بإسماع ما يدل على القديم مِن اللفظ، كما في قوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، ونحو ذلك.
نَعَم، قال ابن القشيري في "المرشد": (إنَّ الصحيح وقَوْل الأشعري: إنه يُسَمَّى خِطابًا في الأزَل). وحينئذ فيستقيم التعبير هنا بِـ "الخطاب" قَطْعًا.
وخَرَج بإضافة "الخطاب" إلى الله تعالى خطابُ غَيْره، ولا يُعْتَرَض بخطاب الرسول وبخطاب الملائكة عليهم الصلاة والسلام؛ لأنَّ ذاك دالٌّ على خطاب الله عز وجل.
وقولي: (عُلِّقَ بِالْفِعْلِ مِنَ الْمُكَلَّفِ) جُملة حاليَّة خَرَج بالتقييدِ بها: المُتَعَلِّقُ بِذَات الله تعالى (نحو: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18])، وبِفِعْله (نحو: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102])، وصِفَته (نحو: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255])، وبِغَيْر المكَلَّف مِن الخَلْق (نحو: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف: 47])، وبِذَوَات المكَلَّفين (نحو: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1])، ونحو ذلك.
والمراد بِـ "المُتَعَلِّق" الذي مِن شأنه أنْ يتعلق، وإلَّا يَلْزَم أنه قبل التعلق لا يَكون حُكْمًا؛
فالأول هو المسمَّى في اصطلاح المحدثين على ما قاله الحاكم بِـ "المنقطع" إما الحديث أو الإسناد على ما يوجد في كلامهم مِن الإطلاقين، إذْ مرةً يقولون في الحديث: (منقطع)، ومرة في الإسناد: (منقطع).
فالمنقطع بهذا الاعتبار أخص مِن مطلق المنقطع المقابل للمتصل الذي هو مورد التقسيم في قولي: (بِمَا قَدِ انْقَطَعْ سَنَدُهُ). فما كان فيه راوٍ لم يسمع ممن فوقه سواء أكان الساقط واحدًا أو أكثر إذا كانت الطبقة واحدة.
فإنْ كان الساقط أكثر من واحد باعتبار طبقتين فصاعدًا إن كان في موضع واحد، سُمي "مُعضَلًا". وإن كان في موضعين، سُمي "منقطعًا" من موضعين، كحديث عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيع -بضم المثناه تحت وفتح المثلثة بعدها ثم ياء التصغير والعين [المهملة] (¬1) - عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ وَلَّيتموها أبا بكر، فقوِي أمين" (¬2). فإنَّ صورته متصل، ولكن سقط بين عبد الرزاق وسفيان: ابنُ أبي شيبة الجنَدي (نِسبة إلى الجنَد -بفتح الجيم والنون- مدينة باليمن)، وسقط بين الثوري وأبي إسحاق: شريك.
أما ما فيه راوٍ مُبْهَم (كحديث أبي العلاء بن عبد الله بن الشخير، عن رجُلين، عن شداد ابن أوس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء في الصلاة: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر" (¬3)
¬__________
(¬1) كذا في (ز)، لكن في (ص): مهملة.
(¬2) المستدرك على الصحيحين (رقم: 4685) بلفظ: (إن وليتموها أبا بكر فزاهد في الدنيا .. وإن وليتموها عمر فقوي أمين)، معرفة علوم الحديث (ص 28).
(¬3) مصنف ابن أبي شيبة (29358)، سنن الترمذي (رقم: 3407) وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 3407).
أنها للمعية إلا إذا تَعذَّر الجمع، فيتعين الترتيب؛ لاستحالة الجمع، لا لكونها دالة عليه.
الخامس: إنْ دخلت بين أجزاء بينها ارتباط، كانت للترتيب، كآية الوضوء، أو أفعال لا ارتباط بينها نحو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فلا. وهو قول أبي موسى من الحنابلة، ورجحه بعض متأخِّريهم.
السادس: تقتضي الترتيب في المفردات دون الجمل. حكاه ابن الخباز عن شيخه.
وفيها أقوال أخرى ضعيفة أو راجعة إلى ما سبق.
تنبيهات
أحدها: قال ابن مالك في "التسهيل": (إن "الواو" تنفرد عن "الفاء" و"ثم" ونحوهما -مما يقتضي التشريك- بأنَّ متبعها في الحكم محتمل للمعية برجحان، وللتأخُّر بكثرة، وللتقدم بِقِلَّة) (¬1).
وزعم بعضهم أن نَص سيبويه السابق يَرُد ما قاله، وفيه نظر، فإن سيبويه تكلم على أصل احتمالها، والشيخ تكلم على مَحال استعمالها.
الثاني: التعبير بِـ "مُطْلَق الجمع" قيل: إنه أصوب من التعبير بِـ"الجمع المطلق"؛ لأن مطلق الجمع أعم من الجمع الذي فيه قرينة ترتيب أو معية أو فور أو ضد ذلك.
والجمع المقيد بالإطلاق أخص؛ لأن الماهية بعدم القيد أعم من الماهية بقيد عدم شيء معها, ولذلك نظائر، كمطلق الماء والماء المطلق، ومطلق التصور والتصور المطلق.
لكن ذهب بعض المحققين أنه لا فرق؛ لأن مطلق الجمع إنما معناه المقيد بالإطلاق من
¬__________
(¬1) شرح التسهيل (3/ 347 - 348).
ولفظ الشارع لا يُخصَّص بالعُرف عند المحققين من أهل الأصول) (¬1). انتهى
وقد استُفيد منه أن مرادهم بالعادة السابقة ليس اعتياد فِعل فقط، بل اعتبار الوجود ولو في ذوات، كما في وجود نوع غنم البلد.
الحالة الثالثة: أن تكون العادة جارية بإطلاق لفظ على بعض أفراد العام الدال عليها لغةً، نحو أن يكون عُرْفهم إطلاق "الطعام" على البُر مثلًا أو على المقتات، ثم يأتي النهي عن بيع الطعام بالطعام، فهذا تخصيص.
وهو في الحقيقة مِن تقديم الحقيقة العُرفية على اللغوية، وممن صرح بذلك الشيخ أبو حامد، فقال بعد ما حكيناه عنه مِن أن العادة بفعل شيء لا تخصِّص العام الآتي بَعْده: (فإنْ قيل: أليس قد خصصتم عموم لفظ اليمين بالعادة؟ فقُلتم: إذا حلف لا يأكل بيضًا أو لا يأكل الرءوس، فلا يحنث إلا بما يعتاد أكله من الرءوس والبيض. فهلَّا قلتُم في ألفاظ الشارع مثل ذلك؟
قيل: نحن لا نُخصِّص اليمين بعُرف العادة، وإنما نخصصه بِعُرف الشرع، مِثل: لا يُصلي ولا يصوم، فيحنث بالشرعي. أو بِعُرف قائم في الاسم، مِثل الحلف على أن لا يأكل البيض أو الرءوس، فيُعقَل مِن إطلاق هذا الاسم الرءوس التي تُقصد للأكل، فتخصيص اليمين بِعُرف قائم في الاسم. فأمَّا بعُرف العادة فلا يخصَّص، فإنه لو حلف لا يأكل خبزًا ببلدٍ لا يؤكَل فيه إلا خبز الأرز، حنث بأكل خبز غير الأرز وإنْ كان لا يعتاد أَكْله). انتهى
وممن نَص على أن العادة القولية تُخصِّص: الغزالي وإلْكِيَا وصاحب "المعتمد" والآمدي ومَن تبعه، وكذا القاضي عبد الوهاب والقرطبي.
وفي "شرح العنوان" لابن دقيق العيد: إنَّ الصواب التفصيل بين العادة الراجعة للفعل
¬__________
(¬1) نهاية المطلب (3/ 82).
أصلًا.
ثم قيل: إنه ممتنع عقلًا؛ لِمَا فيه من التنفير عنه.
وقيل: شرعًا. وعزاه القاضي عياض لحذاق أهل السنة؛ إذ لو كان كذلك لَنُقِل ولتداولته الألسنة.
وثالث المذاهب: الوقف. وهو قول إمام الحرمين والغزالي والآمدي وابن الأنباري، وهو المختار.
واعتمد القاضي أبو بكر في امتناع ذلك على أنه لو كان على مِلَّة، لاقتضى العُرف ذِكره لها لَمَّا بُعِث، ولتحدَّثوا بذلك في زمانه وفيما بَعده.
لكن عارض ذلك إمام الحرمين بأنه لو لم يكن على دِين أصلًا، لَنُقِل؛ فإنَّ ذلك أبدع وأَبْعَد عن المعتاد مما ذكره القاضي. فقد تَعارَض الأمران.
قال ابن الأنباري: وفيه نظر، فليس انصراف النفوس عن نَقْل كَوْنه ليس على دِين كانصرافها عن نَقْل دِينه الذي كان عليه.
ثم قال إمام الحرمين: (الوجه أن يقال: انخرقت العادة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمور، منها انصراف همم الناس عن أمر دِينه والبحث عنه) (¬1).
وأما الثانية:
فإنْ قُلنا في الأُولى بالمنع فالمنع هنا أَوْلى. وإنْ قُلنا بالجواز فاختلفوا:
فقال ابن الحاجب: (إن المختار أنه بعد المبعث متعبَّد بما لم يُنسخ) (¬2).
¬__________
(¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 335).
(¬2) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (3/ 267).