كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

إذِ التعلق حادث - على المُرَجَّح عند الإمام وأتباعه. وإذَا كان المجاز بقرينةٍ، لا يَضُرُّ وقوعُه في التعريف كما سبق. نَعَم، إذَا قُلنا: (التعلُّق قديم) كما في "المحصول" في باب القياس واختاره الشيخ تقي الدين السبكي، أو قُلنا: (له اعتباران: قَبْل وجود التكليف، وبَعْدَه) كما هو ظاهر كلام الغزالي في "المستصفى" وصَرَّح به في "الوسيط" في مسألة "أنت طالق إن شاء الله"، فلا مَجَاز في التعريف، إلَّا أنْ يُقال: [إنَّ] (¬1) الحُكْم يتعلق بالفعل قَبْل حصوله؛ لئلَّا يَلْزَم تحصيل الحاصل، وهو في حالة عَدَمه لا يُسَمَّى فِعْلًا إلَّا مَجَازًا باعتبار ما [يؤول] (¬2)، أو باعتبار القابلية. وسيأتي إن شاء الله تعالى مسألة تَعَلُّق الحُكْم قَبْل المباشرة.
وقد عُلِم بما قَرَّرْناه أنَّ مِثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] لا بُدَّ فيه مِن تقدير فِعْل، والحنفية وإنْ عَلَّقوا في ذلك الحُكم بِذَوات الأمهات وذات الميتة - ونحو ذلك - فليس مرادهم إلَّا وصف العين بالتحريم مع مراعاة الفعل، لا مَعَ قَطْع النظر عنه أصلًا، وكذا سائر الأحكام.
والمراد بِـ "فِعْل المكلَّف": الأَعَم مِن القول والاعتقاد؛ ليدخل عقائد الدِّين والنيَّات في العبادات و [القصود] (¬3) عند اعتبارها، ونحو ذلك.
وقولي: (المُكَلَّف) بالإفراد، ولَمْ أَقُلْ كالبيضاوي وغَيْره: (المُكَلَّفِين)؛ لِيَشْمَل ما تَعَلَّق بِفِعل الواحد، كخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكالحكم بشهادة خزيمة (¬4)، وإجزاء العناق في
¬__________
(¬1) ليس في (ش).
(¬2) في (ش): يؤول إليه. وفي (ز) كتب الناسخ: "إليه"، ثم شطبها.
(¬3) في (ش): المقصود.
(¬4) صحيح البخاري (رقم: 2652).
الحديث) فمنهم مَن يسميه أيضًا "منقطعًا"؛ لأنَّ مَن لا يُعْلم كالمتروك، لكن المختار أنه يُسمى متصلاً في إسناده لمجهول، والمثال المذكور نقله ابن الصلاح عن الحاكم.
والذي قاله الحاكم: إنما هو عن رجُل -بالإفراد- عن شداد.
وكذا رواه الترمذي والنسائي عن رجُل من حنظلة. وقال بعضهم في تفسيره: يشبه أنْ يكون هو المُطلب بن عبد الله الحنظلي.
لكن قال شيخنا شيخ الإسلام البلقيني رحمه الله في كتابه "محاسن الاصطلاح" إنه وجَدَه في أصلٍ مِن "علوم الحديث" للحاكم مسموع بلفظ: "رجُلين" كما أورده ابن الصلاح.
وجعل من ذلك أيضًا إمام الحرمين ما لو قال: أخبرني عدل.
واعْلَم أنَّ وراء ما ذكرناه مذاهب في "المنقطع" و"المعضل" مبسوطة في علوم الحديث، لا نطول بها، وإنما الغرض هنا أنَّ هذه الأقسام لا يُحتج بها بأيِّ اسمٍ سُميت، والله أعلم.
ص:
330 - وَلَوْ يَكُونُ سَاقِطًا صَحَابِيْ ... في ظَاهِرٍ فَقَدْ يُزَادُ رَابِي
331 - وَذَا يُسَمَّى "مُرْسَلًا"، وَرُبَّمَا ... جَافي الْأُصُولِ رَسْمُهُ مُعَمَّمَا
الشرح:
هذا بيان الضرب الثاني مما لم يتصل فيه الإسناد؛ لسقوط الصحابي الراوي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو المسمَّى بِـ "المُرْسَل"، بأْن يقول التابعي: (قال رسول- صلى الله عليه وسلم -كذا)، أو: (فعل كذا)، أو نحو ذلك من وجوه السُّنة السابق بيانها، سواء أكان:
- من كبار التابعين، وهو مَن لقي جماعة كثيرة من الصحابة، كعبيد الله بن عدي بن الخيار، حتى أنَّ ابن عبد البر وابن حبان وابن منده عَدّوه صحابيًّا؛ لكونه وُلد في حياته - صلى الله عليه وسلم -
المجموع؛ لأن الإضافة فيه على معنى "مِن" التبعيضية، فلا فرق بين أن تتأخر صفة الشيء أو تتقدم.
وممن جرى على عدم الفرق بينهما الشيخ تقي الدين السبكي.
الثالث: مما يتفرع من الفقه على الخلاف المذكور: "إنْ دخلتِ الدار وكلمتِ زيدًا فأنت طالق"، ففي التتمة وَجه لا يقع حتى تدخل أولًا، والصحيح لا فرق.
نعم، قالوا فيما لو قال لوكيله: "خذ مالي من زوجتي وطَلِّقها": لا بُدَّ من أخذ المال أولًا على أصح الوجهين كما نقله الرافعي عن البغوي، وكأن ذلك للاحتياط، لكن السرخسي (¬1) لما حكى الوجهين استدل على عدم الاشتراط بأنه لو قال: "طلقها وخذ مالي منها"، لا يشترط تقديم الأخذ.
ثم قال: وثانيهما يشترط؛ لأنه ذَكر أخْذ المال قبل الطلاق، أي: فجعل المدرك المتقدم والتأخر، ولو رُوعِي الاحتياط، لم يكن فرق بين أن يتقدم الأخذ في لفظِه أو يتأخر.
ومنها: قال لغير المدخول بها: "إنْ دخلتِ الدار فأنت طالق وطالق وطالق" أو قَدَّم قوله: "أنت طالق وطالق وطالق" على "إن فعلت"، يقع الثلاث في أصح الأَوْجُه.
وقيل: واحدة.
وقيل: إن قدم الشرط فواحدة، أو الجزاء فثلاث.
ولو أتى بِـ"ثم" أو "الفاء" لم يقع إلا واحدة، فربما يقال فيها: إنها للمعية. وهو قول الحنفية.
¬__________
(¬1) هو: أبو الفرج السرخسي الزاز، فقيه شافعي، ولد عام (432 هـ). (شذرات الذهب، 3/ 400).
والراجعة للقول، فيُخصَّص بالثانية العمومُ؛ لِسَبْق الذهن عند الإطلاق إليه دُون الأول.
أي: إذا تَقدمت أو تأخرت ولكن لم يُقررها - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى يجتمع كلامه مع ما سبق.
قلتُ: وكلام القرافي في "شرح التنقيح" كالصريح في هذه الحالة، خلافًا لمن زعم أنه في الحالة التي قبلها.
وهذه الحالة الثالثة لم أتعرَّض لها في النَّظم؛ لأنها حينئذٍ مِن حمل اللفظ على حقيقته العُرفية.
وأما الحالة الثانية: فتخرج مِن كونه - صلى الله عليه وسلم - قَرر العادة إذا أتى بلفظ عام موافِق للعادة السابقة في البعض، فيُستفاد منه جريان الحكم فيه وفي غيره، فلا يقال: إنه قَرَّر العادة.
بخلاف ما إذا جاءت بَعْد مخالِفة للعام وعَلِم بها وسكت، فإنه يقال: قررها.

تنبيهات
الأول: من فروع المسألة: لو قال: (بعتُك هذه الشجرة)، فهو في قوة بيعها مُصرِّحًا بجميع أغصانها، لكن لا يدخل فيها الغصن اليابس؛ لأن العادة فيه القطع.
وقال صاحب "التهذيب": يحتمل أن يدخل كالصوف على ظهر الغنم إذا بِيعت الغنم وقد استحق جز صوفها في العادة.
وما قاله هو قياس ما سبق من عدم التخصيص بالعادة السابقة، إلا أن يقال: إنما لم يدخل الغصن اليابس لأنه كالخارج من مدلول لفظ الشجرة؛ لأنَّ اليابس كالمنفصل، فهو كالسُّلم ونحوه في بيع الدار حيث لا يكون مُثَبَّتًا.
ومن ذلك ما أشار إليه القرطبي إذ قال: اختلف أصحابنا في تخصيص العموم بالعادة الغالبة، كقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6]، فهو كناية عن الخارج
أي: مِن شرع مَن قَبْله بإيحاء الله تعالى له بذلك، على معنى أنه موافِق، لا متابع.
قال إمام الحرمين: (وللشافعي مَيْل إلى هذا وبَنَى عليه أصلاً مِن أصوله في "كتاب الأطعمة"، وتابعه معظم أصحابه) (¬1).
والأصل الذي في الأطعمة: إذا وجدنا حيوانًا لا يمكن معرفة حِلِّه بشيء مِن مَآخِذ شريعتنا وثبت تحريمه في شرع مَن قَبْلنا، فأظهر القولين أنه يُستصحب تحريمه.
وهو قضية كلام عامة الأصحاب.
ومقابلُه: ما قاله الأكثرون: إنه لم يكن متعبدًا بعد النبوة بشرع غيره أصلًا.
فَعَلَى هذا يكون الراجح في مسألة أنَّ "شَرْع مَن قَبْلنا هل هو شَرْع لنا؟ " المنع إلا أنْ يُقَرَّر في شرعنا، وعليه جريتُ في النَّظم بقولي: (لَيْسَ بِذِي تَقَرُّرِ) في شرعنا، وهذه اللفظة هي المذكورة في البيت الذي بعده.
ثم افترق القائلون بالمنع:
فقالت المعتزلة: ذلك مستحيل عقلاً.
وقال غيرهم: شرعًا. وهو اختيار القاضي والإمام الرازي والآمدي.

تنبيهات
الأول: استند القائلون بأنه كان متعبدًا بعد البعثة بشرع مَن قبله بظواهر، نحو قوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]، وقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وغير ذلك مما يَكرر مثله كثيرًا.
¬__________
(¬1) البرهان في أصول الفقه (1/ 331).

الصفحة 165