كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

لكن الصحيح فيها أنها حُكْم شرعي. ومنهم مَن يُعَبِّر عن هذا القيد بقوله: (على [جهة] (¬1) الإنشاء)؛ ليتخلَّص مِن وقوع "أو" في التعريف؛ لأنها لِأَحَد الشيئين، وذلك مُنَافٍ للبيان، لكن "أو" هنا إنما هي للتقسيم، فلا تَرْدِيد، بل [يرجح] (¬2) التعبير بهذا؛ لإفادته تنوع الحكم وسلامته مِن إيهام لفظ "الإنشاء"؛ لأنَّ له معاني لا يُدْرَى ما المراد منها. وهذا أحسن أيضًا مِن تعبيره في "جَمْع الجوامع" بقوله: (مِن حيث إنه مكلَّف)؛ لأنها حيثية مجهولة. نَعَم، هو أراد أنْ يُدْخِل في التعريف خطاب الوضع الآتي بيانه؛ تفريعًا على أنه حُكم شرعي، لكن أُورِدَ عليه أنه غَيْر جامع؛ لخروج الندبِ والإباحةِ وخِلَافِ الأَوْلَى؛ فإنه لا تكليف فيها، وتَعَلُّق الحُكم بصلاة الصبي وصومه وسائر عباداته حتى إنه يُثاب عليها.
وأجاب في "منع الموانع" بأنه لَمْ يَقُل: (مِن حيث إنه مكلَّف به) حتى يَرِدَ، أَيْ: ومسألة الصبي مِن خطاب الوضع، وهو داخل على مختاره.
قلتُ: لكن هو مُكَلَّف بالندب والإباحة ونحوهما - على معنى الاعتقاد لِنَدْبِيَّتها و [إباحتها] (¬3)؛ فَيَكون هذا جوابًا آخَر عنه، لكنه مُشْكل مِن حيث إنَّ المكلَّف إذَا كان المراد به هنا مَن تَعَلَّق به التكليف، يَلْزَم الدَّوْر كما سبق، ولا يقال: إنه أراد [ما] (¬4) سبق مِن القابِل لِتَعَلُّق التكليف؛ لأنه جعل القَيْد مِن حيثية التكليف، أَيْ مِن جهة تَعَلُّقه، فَتَأَمَّله.
[والضمير في قولي: (اقْتَضَى أَوْ خَيَّرَا) إما أنْ يعود على الخطاب مجازًا شائع الاستعمال، وإلَّا فالحقيقة في الطالب والمُخَيِّر هو المخاطِب لا الخطاب، ويحتمل - وهو الأحسن - أنْ
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ت)، لكن في (ز): وجه.
(¬2) كذا في (ش)، لكن في سائر النُّسَخ: يرجع.
(¬3) في (ز): إباحيتها.
(¬4) في (ش): بما.
لكن المشهور -كما قال ابن الصلاح وغيره- التسوية بين التابعين في اسم "الإرسال" وإنْ تَغَايَرَا في حُكم الاحتجاج على قول الشافعي كما سيأتي.
فقولي: (وَلَوْ يَكُونُ سَاقِطًا صَحَابِيْ) اسم كان مُؤخَّر وهو "صَحَابِيْ"؛ لأنه وإنْ كان بمِرة إلَّا أنه في سياق الشرط؛ فيقتضي العموم، وذلك من مُسَوِّغات الابتداء بالنكرة.
وقولي: (في ظَاهِرٍ فَقَدْ يُزَادُ رَابِيْ) أي: زائدٌ على الصحابي، مِن "ربَا يربو": إذا زاد. وإذا احتمل سقوط غير الصحابي ممن يحتمل أن لا يكون عدلًا، فلم تتحقق عدالة الراوي. وكوْن الساقط هو الصحابي فقط إنما هو بحسب الظاهر، ويحتمل أكثر كما بينَّاه.
وقولي: (وَذَا يُسَمَّى "مُرْسَلًا") أي: باتفاق في التابعي الكبير، وعلى الراجِح في الصغير.
وقولي: (وَرُبَّمَا جَا في الْأُصُولِ رَسْمُهُ مُعَمَّمَا) إشارة إلى أن ما سبق في تفسير "المرسل" هو الراجح، فإنه قول الاكثرين المشهور الذي قطع به الحاكم وغيره من أهل الحديث، وجرى عليه كثير من الأصوليين.
وربما وُجد في أصول الفقه تفسيره بأعم من سقوط الصحابي وسقوط غيره، وتحته طريقتان:
إحداهما: تسمية ما سقط مِن الإسناد واحد أو أكثر -سواء الصحابب أو غيره- "مرسلًا"، فيتحد مع المسمى بِ "المنقطع" بالمعنى الأعم كما سبق، ويدخل فيه حينئذٍ "المعضل" وهو ما تَعدد فيه الساقط على ما سبق في تفسيره.
قال ابن الصلاح: ففي الفقه وأصوله أن كل ذلك يسمى "مرسلًا".
قال: (وإليه ذهب من أهل الحديث أبو بكر الخطيب وقطع به، إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ما رواه التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما ما رواه تابِعِيُّ التابعي
باب في بيان أحكام المهم من الأمور السابقة
وفيه فصول:

الأول: في "الأمر" و"النهي"
لَمَّا فرغت من تقسيم الألفاظ وكان من جملة الأقسام أمور مقصودة في هذا الفن يشتد تَعلُّق الاستدلال بها ولها أحكام كثيرة تفتقر إلى إفراد كل منها بترجمة تخصه يُذكر فيها أنواعه وأحكامه كالأمر والنهي والعام والخاص والمطلق والمقيد والظاهر والمؤَوَّل والمجمَل والمبيَّن، شرعتُ في ذِكرها على هذا الترتيب في فصول، الفصل الأول منها في بيان الأمر والنهي.
فأما "الأمر" فإنما بُدئ به لأنه إثبات، وهو أشرف من "النهي"، ولو لوحظ الزمان لَقُدِّم النهي؛ لأن العدم سابق على الوجود.
ولفظة "الأمر" تطلق على معانٍ:
منها: المعنى الاصطلاحي الذي هو مقصود الفصل على الخلاف الآتي فيه أول هل هو الصيغة الدالة على طلب إيجاد فِعل نحو: "اضرب"؟ أو نفس الطلب الذي تدل عليه الصيغة؟
ومنها: الفعل، فيقال: (زَيد في أمر عظيم)، أي: في فِعل مهم من سفر أو غيره. ومنه قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، أي: في الفعل الذي تعزم عليه، ونحوه قوله تعالى: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73]، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 40].
ومنها: الشأن، كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97]، أي: ما شأنه،
لكن هذا الذي قاله ليس بجيد، لأن الشافعي (- رضي الله عنه -) إنما قال ذلك لحديث: "نفقته وكسوته بالمعروف"، لا لأجل أن العُرف خصَّصه، بل هو من تخصيص حديث بحديث. والله أعلم.
ص:
657 - كَذَاكَ بِالْإجْمَاعِ خُصَّ الْمُنْزَلُ ... مُضَمَّنًا [لِسَنَدٍ] (¬1) يُفَصَّلُ
658 - وَمَثَّلُوا بِالْقَذْفِ إذْ يُنَصَّف ... في الْعَبْدِ إجْمَاعًا، وَفِيهِ يُوقَفُ
الشرح:
القِسم الخامس من التخصيص بالمنفصل: تخصيص عموم الكتاب والسُّنة بالإجماع.
وذلك معنى قولي: (خُصَّ الْمُنزلُ)، فإنه شامل للقرآن والسنة كما سبق من بيان أن السنة مُنزَّلة، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].
وقال الشافعي أنه سمع مَن يرضَى من أهل التفسير يقول في نحو قوله تعالى: {وَمَا
¬__________
= عَبْدِ الله، عَنْ عَجْلَانَ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يطِيقُ").
ثم قال الإمام الشافعي: (فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَهُ مَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ").
انتهى ومن طريقِه في: السنن الكبرى للبيهقي (15551).
قلتُ: لم أجد الحديث بهذا اللفظ، فَلَعَل الإمام الشافعي قصد ذِكر معنى الحديث.
(¬1) كذا في (ص، ق، ن)، وهو الصواب. لكن في سائر النُّسَخ: السنة).
وجوابه إما أنَّ المراد: لتذكرني فيها، أو نحو ذلك. وذِكر الآية للتنبيه على أنَّ هذا الحكم لا يختلف في شرعه وشرع موسى عليهما الصلاة والسلام.
واستُدل للمنع بأنه لم يذكر في حديث معاذ الذي فيه تصويبه، والإجماع على أن شريعته ناسخة لغيرها من الشرائع، وغير ذلك من الأدلة. ولذلك محل يُذكر فيه لسنا بصدده في هذا الكتاب. والله تعالى أعلم.
ص:
904 - شَرْعًا لنَا، وَ"مَذْهَبُ الصَّحَابِيْ" ... لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى أَصْحَابِ
905 - تَصَرُّفٍ بِالِاجْتِهَادِ مُطْلَقَا ... وَالشَّافِعِيْ وَإنْ يَكُنْ قَدْ وَافَقَا
906 - مَذْهَبَ زيدٍ في فَرَائِضَ [يُرَى] (¬1) ... وَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ عَنْهُ الْأَكْثَرَ
907 - لَيْسَ لِكَوْيهِ دَلِيلاً وَجَدَا ... وَلَا لِكَوْنِهِ لِزَيْدٍ قَلَّدَا
908 - بَلْ لِتَوَافُقٍ في الِاجْتِهَادِ ... أَوْ [لِحَدِيثٍ] (¬2) صَحَّ بِالْإسْنَادِ
909 - "أَفْرَضُكُمْ زيدٌ"؛ فَكَانَ حُجَّهْ ... لِلشَّرْعِ لَا لِكَوْنِهِ الْمَحَجَّهْ
الشرح:
من الختلف فيه من الأدلة: "مذهب الصحابي"، أي: العالِم؛ لأنَّ العامِّي لا قول له. فتقييد بعض الحنابلة إياه بذلك للإيضاح؛ إذ لا حاجة إليه.
والنظر في قول الصحابي في أمرين:
¬__________
(¬1) في (س، ت): ترى.
(¬2) كذا في (ق، ش، ن)، ويوافق لفظ "النبذة". لكن في (ص، ض، ت، س): نحو نص.

الصفحة 167