يُعاد على الله تعالى في قولي: (خِطَابُ اللهِ)] (¬1).
وقولي: (وَمَا أَتَى وَضْعًا) هو إشارة إلى بيان خطاب الوضع، والضمير في "أَتَى" للخطاب، أَيْ: وَمَا أَتَى مِن الخطاب لا اقتضاءًا ولا تخييرًا، وإنما وَرَدَ بِجَعْلِ شيءٍ سَبَبًا لِشَيءٍ (كدلوك الشمس لِوجوب الصلاة)، أو شَرْطًا له (كالطهارة للصلاة)، أو مانعًا له (كالنجاسة لإفساد الصلاة أو البيع)، أو لِكَوْنه صحيحًا أو فاسدًا - كما سيأتي شرحُ هذه الأقسام.
فهذا في الحقيقة خَبَرٌ عن تَرَتُّب آثارها عليها، لا إنشاء، فَعَلَى هذا لا يُسَمَّى "حُكْمًا" إلَّا مَجَازًا. وَقِيل: بل هو حُكْم شرعي؛ لأنه لَمْ يُعْلَم إلَّا بِوَضْع الشرع، فكأنَّ الشارع أنشأه؛ وعَلَى هذا فلا يستقيم تعريفُ الحكم حتى يُزاد فيه فيقال: (اقتضاءًا، أو تخييرًا، أو [وَضْعًا]) (¬2). وإليه أشار ابن الحاجب بقوله: (فَزِيدَ "أو الوضع"؛ فاستقام).
وقِيلَ: هو داخِل تحت الاقتضاء والتخيير؛ لأنه لا مَعْنى لِكَوْن الدلوك سَبَبًا إلَّا وجوب الصلاة، ولا لِكَوْن الطهارة شَرْطًا إلَّا إباحة الإقدام عند وجودها، ولا [لِصحة] (¬3) البيع إلَّا إباحة الانتفاع، ونحو ذلك. فهو داخل بالاستلزام باعتبار المعنى المقصود منه، لا أنه منهما حقيقةً، وليس تحت هذا [الخلاف] (¬4) كبيرُ فائدة.
وعَلَى كل تقدير فَخطاب الوضع يتعلق بفعل المكلَّف وغير المكلَّف، وهو معنى قولي: (وَلَيْسَ يَخْتَصُّ بِذِي تَكْلِيفِ)؛ ولهذا تجب عندنا الزكاة في مال الصبي والمجنون، والوَلِي
¬__________
(¬1) من (ز).
(¬2) في (ش): وضعيا.
(¬3) في (ش، ض): بصحة.
(¬4) في (ش): الاختلاف.
عنه فيسمونه " المعضل") (¬1). انتهى
وعبارة ابن برهان (¬2): "المرسَل" أن يحذف الراوي واحدًا بينه وبين غيره، كقول التابعي: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، أو نحو ذلك، وقول واحد من تابعي التابعين: "قال أبو بكر"، ونحن نعلم أنه ما لقيه ولا سمع منه.
وفي "المستصفى" للغزالي نحوه أيضا (¬3)، بل ويوجد مِثله في كلام المحدثين غير الخطيب، فقد نقله النووي في "شرح مسلم" عن جماعة مِن المحدثين.
الطريقة الثانية: أن يقول مَن هو دُون الصحابي: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، أو نحو ذلك، أعم مِن أن يكون تابعيًّا أو دُونه، كما قال ابن الحاجب في تعريفه: هو قول غير الصحابي: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).
فتلخَّص في تفسير "المرسل" أربعة آراء.
وفيه أيضًا خامس: وهو أنه إذا قيل في الإسناد: (فلان، عن رجل)، أو: (عن شيخ، عن فلان) وذلك [غير] (¬4) النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو نحو ذلك مما يُذكر فيه الراوي مُبْهمًا.
قال ابن الصلاح: (فالذي ذكره الحاكم في "معرفة علوم الحديث" أنه لا يُسمى "مرسلًا"، بل "منقطعًا" وهو في بعض المصنفات المعتبرة في أصول الفقه معدود من أنواع "المرسَل") (¬5). انتهى
¬__________
(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 52).
(¬2) انظر: الوصول إلى علم الأصول (2/ 178).
(¬3) المستصفى (1/ 134).
(¬4) في (ص): عن. وفي سائر النُّسخ: غير.
(¬5) معرفة أنواع علوم الحديث (ص 53).
والمعنى الذي هو [متلبس] (¬1) به.
ومنها: الصفة، كقول الشاعر: لأمر ما يُسوَّد من يسود.
أي: لصفة من صفات الكمال.
ومنها: الشيء، كقولنا: تحرك هذا الجسم لأمر. أي: لشيء.
ومنها: الطريق، وقع ذلك في عبارة "المعتمد" لأبي الحسين، فقيل: إنه غير ما سبق. [لكنه] (¬2) قال في "شرح العمد": إن الطريق والشأن بمعنى واحد، فَيُكتفَى بأحدهما.
وربما ذكر أنه يطلق على القصة والمقصود وليس المراد غير ما ذكر، بل اختلاف في العبارة.
وبالجملة فإطلاقه بالمعنى الاصطلاحي حقيقة بلا خلاف.
واختلفوا في إطلاقه بالمعاني المذكورة على أقوال:
أحدها وهو قول الأكثرين: أنه مجاز وإلا لَزم الاشتراك، والمجاز خير منه.
وفرَّعوا على ذلك أن جمع "الأمر" بالأول "أوامر"، وجمعه ببقية المعاني "أمور". ومما يُعرف به المجاز -كما سبق- أن يخالف جمعُه جمعَ الحقيقة، ولكن هذا لا يُعْرف لأهل اللغة إلا للجوهري، وقد قال الأزهري في "التهذيب": ("الأمر" ضد النهي، واحد "الأمور") (¬3).
وقال ابن سِيده في "المحكم": (إن "الأمر" لا يكسر على غير "الأمور") (¬4).
¬__________
(¬1) كذا في (ص). لكن في (ش): منكس. وفي سائر النُّسخ: مباشر.
(¬2) كذا في (ص، ش). لكن في (ض، ق، ت): إليه.
(¬3) تهذيب اللغة (15/ 207).
(¬4) المحكم والمحيط الأعظم (10/ 298).
أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [البقرة: 231]: إنَّ الحكمةَ السُنَّةُ.
فأما تخصيص القرآن بالإجماع فمثَّلوه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية، خُص بالإجماع على أنَّ العبد القاذف يُجلَد على النصف مِن الحُر. لكن التخصيص في الحقيقة إنما هو بما تضَمَّنه الإجماع من الدليل في الأصل على الحكم؛ إذِ الإجماع لا بُدَّ له من مُستنَد وإنْ لم نَعرفه.
نعم، في التمثيل بذلك نظر، وإليه أشرت في النَّظم بقولي: (وَفِيهِ يُوقَفُ). أي: يتوقف فيه من جهة احتمال أن يكون التخصيص بالقياس.
فإن قيل: لِمَ لا تقولون بأنَّ الإجماع يكون ناسخًا على معنى أنه يتضمن ناسخًا؟
فجوابه: أنَّ [سند] (¬1) الإجماع قد يكون مما لا يُنسخ به، فليس في كل إجماع تَضمُّن لِما يسوغ النسخ به.
وأما التخصيص فلَمَّا كان مِن البيان، كان كل دليل يخصَّص به ولو كان العام الذي يخصَّص قطعيًّا في المتن، فافترقَا.
وأما مَن قال: (النَّسخ بالإجماع ما وقع حتى يقول: إنه يتضمن ناسخًا، بخلاف التخصيص) فلا يخلو مِن نظر.
وبالجملة فمعنى تخصيص العام بالإجماع: أن يُجمِعوا على أنه مخصوص بدليل آخَر، فيَلزم مَن بَعْدَهم متابعتهم وإنْ جهلوا المخصِّص.
وليس معناه أن الإجماع نفسه مخُصِّص؛ لأن الإجماع في زمنه - صلى الله عليه وسلم - محُال، وبَعْده -على خِلاف الكتاب أو السُّنة- خطأ لا ينعقد.
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في. (س): مستند.
في كونه حُجة شرعية أو لا.
وفي أنه هل يجب تقليده في قوله؟ أو لا؟
فالأول: إنْ كان على صحابي آخَر فليس بحجة بالاتفاق كما حكاه ابن الحاجب وغيره.
ولكن فيه نظر؛ فقد قال إمام الحرمين - بعد تقرير أنه إنما يكون حجة على قول مَن يراه إذا لم تختلف الصحابة ولكن نُقِل عن واحد منهم ولم يَظهر خِلافُه - إنَّ الشافعي قال في موضع: إذا [اختلف] (¬1) الصحابة، فالتمسك بقول الخلفاء أَوْلى.
قال: (فهذا كالدليل على أنه لا يسقط الاحتجاج بأقوال الصحابة مِن أَجْل الاختلاف). انتهى.
وفي "المحصول" في مسألة الاجماع السكوتي ما يُشْعِر بالخلاف في كونه حُجة على صحابي آخَر.
وفي "اللمع" للشيخ أبي إسحاق: (إنَّ الصحابة إذا اختلفوا على قولين، ينبني على القولين في أنه حجة؟ أم لا؟
فإنْ قُلنا: ليس بحجة، لم يكن قول بعضهم حُجة على بعض، ولم يَجُز تقليد واحد منهما، بل يُرْجَع إلى الدليل.
وإنْ قُلنا: إنه حُجة، فهما دليلان تَعارضَا، يرجح أحدهما على الآخَر بكثرة العدد مِن أحد الجانبين أو يكون فيه إمام) (¬2). انتهى
وإنْ كان على غيْر الصحابي مِن المجتهدين من التابعين وغيرهم ففيه مذاهب:
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ق)، لكن في (س، ت): اختلفت.
(¬2) اللمع في أصول الفقه (ص 95).