كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

والإباحة [بالأصالة] (¬1)، والوقْف؛ للتعارُض. ولبعضهم عبارة أخرى في التقسيم، هذه أَجْوَد منها.
ومَذْهَب أهْل السُّنَّة أنَّ إدراك المصلحة والمفسدة في الفعل (المُؤْذِنَة بِحُسْنه وقُبْحه) إنما تُتَلَقَّى مِن الشرع؛ لأنَّ الله تعالى هو الحاكم بما يشاء، الفعَّال لِمَا يريد.
وقولي: (مِنْ حَيْثُ مَا يُمْدَحُ أَوْ يُذَمُّ) أَيْ: الحُسْن والقُبْح الذي يمتنع إدراك العقل له - على قَوْل أهل السُّنة - إنما هو مِن حيث تَرَتُّب المدح في الحال [والثواب في الآجِل، والذم في الحال] (¬2) والعقاب في الآجِل. أمَّا إذَا فُسِّر "الحُسْن" بملائمة الطَّبْع و"القُبْح" بمنافرته (كإنقاذ الغريق واتهام البريء)، أو باعتبار الكمال والنقص (كَحُسْن العِلم وقُبْح الجهل) فالعقلُ مستقِلٌّ بإدراكهما بِهَذَيْن الاعتبارَيْن اتفاقًا. ومنهم مَن يَرُدُّ هذين الاعتبارين لِمَعْنى واحدٍ وهو اللذة والألم.
واعْلَم أنَّ لازِم قَوْل المعتزلة باستقلال العقل بإدراك ترَتُّب المدح والذم أنَّ العقلَ هو الحاكمُ، والشرعَ تَبَعٌ له؛ فلذلك قلتُ: إنَّ كَوْن الحاكم العقل عندهم مَبْنِيٌّ على قاعدة التحسين والتقبيح. وإنما قالوا: إنَّ الشرع تاجٌ له؛ لأنه لو لَمْ يوافقه، لَكان ظُلْمًا، وهو نَقْصٌ مُحَال على الله تعالى.
ولَنَا: أنَّ المالِك يتصرف في ملكه كيف شاء، لا يُسْأَل عَمَّا يَفْعل.
ومِن العلماء مَن قال: إنَّ الشرعَ هو الحاكمُ اتفاقًا مِنَّا ومنهم، وإنما الخلاف في أنَّ العقل هل يُدرِك ما حَكَم به الشرعُ؟ أَوْ لَا؟ لكن مَن يقول بأنه يُدرِك إنما هو لأجل أنَّ الشرع لا
¬__________
(¬1) في (ص): بالاضافة.
(¬2) ليس في (ص).
قال ابن عبد البر: (كأنَّ ابن جرير يعني أنَّ الشافعي أول مَن رد المرسل) (¬1). انتهى
قيل: إنْ صحَّ هذا عن ابن جرير فهو محمول على أنه لم يكن يُعمَل به إلى رأس المائتين حتى يحتاج لإنكار، فلمَّا عُمل به، أنكرَه مَن أنكره، وإلَّا فابن جرير مِن أجلاء الشافعية يَبعُد أن يدَّعي خَرْقَ إمامِهِ الإجماع، وإمامُه أَدْرَى بمواقع الإجماع والاختلاف مِن أمثاله، وهذا مُسْلم وابن عبد البر والخطيب ينقلون رده عن الجماهير كما سيأتي.
قلتُ: الجواب حسن إلَّا كونه لم يكن يُعمل به إلى رأس المائتين، ففيه نظر؛ لأنَّ أبا حنيفة ومالكًا من القائلين بقبوله والعمل به.
قيل: ويحتمل أنَّ مراد ابن جرير مراسيل الصحابة؛ لأنَّ المخالف فيها الأستاذ أبو إسحاق، وهو بعد المائتين.
قلتُ: لكن بكثير، فإنَّ وفاته عاشر المحرم سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فكيف يكون رأس المائتين غايةً لذلك؟ ! إلَّا أن يكون للأستاذ سَلَف في رأس المائتين قال ابن جرير ذلك لِأَجْلهِ.
وغَلَا بعض هؤلاء فزعم أنَّ "المرسَل" أقوى من "المسند" من حيث إنَّ المرسِل له كأنه التزم صحته مِن حيث أَخفَى، بخلاف ما لو صرح. ويحكَى ذلك عن بعض الحنفية، وحكاه صاحب "الواضح" عن أبي يوسف.
والشافعي - رضي الله عنه - قد أشار إلى رد ذلك، حيث قال -بعد المرسَل الذي اعتضد بما سنذكره عنه حتى صار حُجة -ما نَصه: (ولا نستطيع أن نزعم أنَّ الحجة تثبت [بها ثبوته] (¬2) بالمتصل، وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يَكون يُرْغَبُ عن الرواية
¬__________
(¬1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 4).
(¬2) كذا في جميع النُّسخ، وعبارة الشافعي في (الرسالة، ص 464): به ثبوتها.
للآمدي على وجه الإلزام في الصيغة والفعل كما سبق.
وقول سابع: حكاه صاحب "المصادر" من المعتزلة عن أبي القاسم البستي: أنه حقيقة في القول الذي هو الصيغة والشأن والطريق دُون آحاد الأفعال، وقال: إنه الأقرب؛ لأن مَن صَدر منه فِعل قليل غير مُعْتَد به -كتحريك أصابعه وأجفانه- لا يُقال: إنه مشغول بأمر، أو: هو في أمر.
قال: (والذي أداهم إلى البحث في هذه المسألة اختلافهم في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل هي على الوجوب؟ أم لا؟ ). انتهى
وكذا قال صاحب "المعتمد" لما اختار ما اختار: (إنَّ أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب" لأنها داخلة تحت قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 62]) (¬1).
وقال الشيخ أبو إسحاق في "شرح اللمع": أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل تُسمى أمرًا؟ فيه وجهان، أصحهما: لا.
وفرَّع صاحب "المحصول" على الخلاف في المسألة أيضًا لو قال: (إنْ أمرت فلانًا فعبدي حر) ثم أشار بما يُفهم منه مدلول الصيغة فإنه لا يحنث، ولو كان حقيقة في غير القول لزم العتق.
قال: (ولا يُعارَض هذا بما إذا خرس وأشار فإنه يعتق؛ لأنَّا نمنع هذه المسألة) (¬2). انتهى
قلتُ: لكن رجع كلامه إلى أن الدال على الأمر الذي هو الطلب هل هو مثل الصريح؟ أو لا؟ من غير تَعَرُّض لبقية المعاني، والله أعلم.
¬__________
(¬1) المعتمد (1/ 39).
(¬2) المحصول (2/ 25).
"الحاوي الصغير".
ومما يمثَّل بذلك له أيضًا تخصيص عموم السُّنة بخصوص القرآن، وإنْ ذكرنا فيما سبق له أمثلة لكنها بمنطوق، وهذا بمفهوم، فَاعْلَمه.
وقولي: (وَبِدَلِيلِهِ) أي: ومن المخصصات أيضًا التخصيص بدليل الخطاب، فالضمير عائد للخطاب، والمراد به "مفهوم المخالفة".
ومثاله -كما ذكره بعض أصحابنا وإليه أشرتُ بقولي: (لِلْأَصْحَابِ) أي: [مِن جهتهم] (¬1)، لا أن الكل مثَّلوا به- قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قلتين، لم يحمل الخبث" (¬2). رواه الأربعة، وصححه ابن حبان والحاكم والبيهقي وغيرهم.
خَصَّ بمفهومه -وهو ما لم تبلغ قلتين- عمومَ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه". رواه ابن ماجه والبيهقي من حديث أبي أمامة على ضَعف فيه، فإنه أَعَم مِن القلتين ودُونهما؛ فتصير القُلتان في الحديث الأول تنجُّسهما مخصوص بالتغيير، أي: تغييرهما بالنجاسة، ويبقى ما دُونهما ينجس بمجرد الملاقاة في غير المواضع المستثناة بدليل آخَر.
وهو معنى قولي: (في الْقُلَّتَيْنِ)، أي: في قَدْر القُلتين المذكور ذلك في الحديث السابق خُصَّ تنجيسه بالتغيير، بخلاف ما دُونهما فإنه ينجس بمجرد الوقوع، تَغيَّر أوْ لا.
إلا أن في قولي: (وَلِلْأَصْحَابِ تَمْثِيلُهُ) [إيماء] (¬3) إلى عدم اختياري للتمثيل بذلك؛ لأن كلًّا مِن الحديثين عام مِن وجه وخاص من وجه.
¬__________
(¬1) في (ت، س، ض): وجههم.
(¬2) سبق تخريجه.
(¬3) كذا في (س، ت)، لكن في سائر النُّسخ: الماء.
المذهب الثالث: أنه حجة مطلقًا تُقَدَّم على القياس؛ لحديث: "أصحابي كالنجوم" (¬1). ولكن قد سبق بيان ضعفه والجواب عنه بتقدير الصحة في باب الإجماع.
وهو قول مالك وأكثر الحنفية، وهو المنقول عن القديم للشافعي.
لكن للشافعي في الجديد أقوال أخرى، منها ما يوافق ذلك.
فقال في "الرسالة": (إن الصحابة إذا تفرقوا، نصير إلى ما وافق الكتاب أو الإجماع أو كان أصح في القياس. وإذا قال الواحد منهم القول ولا يُحفظ عن غيره موافقة ولا مخالفة، صرنا إلى اتِّباع قول أحدهم إذا لم نجد كتابًا ولا سُنةً ولا إجماعًا ولا شيئًا نحكم له بحكمه) (¬2).
وقال في اختلافه مع مالك مِن جملة "الأم": (ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعُذر على مَن سمعهما مقطوع إلا باتِّباعهما. فإذا لم يكن ذلك، صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو واحدهم، وكان قول الأئمة أبي بكر أو عُمر أو عثمان أحب إلينا إذا صرنا إلى التقليد، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أَقْرَب الاختلاف مِن الكتاب والسنة، فنتبع القول الذي معه الدلالة؛ لأنَّ قول الإمام مشهور بأنه يلزم الناس، ومَن لَزِمَ قولُه الناس كان أظهر ممن يُفتي الرجل أو النفر) (¬3) إلى آخِره.
وغير ذلك من نصوص صريحة في أن قول الصحابي عنده حجة مقدمة على القياس على وَفْق ما قاله في القديم.
¬__________
(¬1) رواه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم، 2/ 78)، وابن بطة في (الإبانة الكبرى، 2/ 564)، وقال الشيخ الألباني في (سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم: 58): (موضوع).
(¬2) الرسالة (ص 596 - 598).
(¬3) الأم (7/ 265).

الصفحة 171