كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

يخرج عن حُكْم العقل، فبذلك يُعْلَم حُكمه، [فيرجع] (¬1) إلى أنَّ العقل هو الحاكم؛ لأنَّ الشرع (¬2) يوافقه ولا يخالفه؛ فَيَكُون مؤكِّدًا له ومُقَرِّرًا لِحُكْمه، فهو الأول بِعَيْنه.
نَعَم، للمعتزلة مذهبٌ آخَر: أنَّ العقل يُدْرِك المدحَ والذمَّ في الحال، ولا يُدْرِك الثواب والعقاب في الآجِل، فاقتصر عليه كثيرٌ مِن النَّقَلة، وقوَّاه بَعْضُهم.
وقولي: (فَالشُّكْرُ وَاجِبٌ) إلى آخِره - تَضَمَّن فَرْعَيْن على هذه القاعدة، جَرَت عادة الأصوليين بإفرادهما بِالذِّكْر ورَدِّهما؛ لِمَا يَخُصُّهما مِن وجوه الفساد زيادةً على فساد القاعدة؛ فلذلك عَقَّبتهما بالفاء؛ للترتيب، وإنما يَحْسُن إفرادهما ممن يَذكُر أدلة المسائل، أمَّا مَن يقتصر على مُجَرَّد الحُكم فلا فائدة في إفرادهما بِالذِّكْر إلَّا لِغَرضِ قَصْدِ التصريح بهما أو نحو ذلك كما فعل ذلك في "جمع الجوامع"، فاتَّبعتُه فيه:
الأول: شُكْرُ المُنعِم واجب بالشرع، لا بالعقل؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. ولو وَجَب عَقْلًا، لَعُذِّبَ تارِكُه وإنْ لَمْ يَرِد شَرْعٌ.
الثاني: أنه لا حُكْم قَبْل الشرع، بل الأَمْر موقوف إلى وُرُودِه؛ للآية السابقة. كذا عَبَّر به القاضي في "مختصر التقريب" عن أهل الحق، أَيْ: إنَّ الحكم مَنْفِيٌّ، والتوقُّف إنما هو عن ثبوته حتى يَجِيء الشرعُ بإثباته، وليس المراد أنَّ هناك حُكْمًا ولكن لا نَعْلَمه فَيَكُون التوقُّف عن العِلْم به كما زعم ذلك الإمام في "المحصول" في تفسير الوقْف المنقول عن الأشعري، وكذا البيضاويُّ بَعْد أنْ نَسَب الذي قَبْله للإمام، ولكنه وَهْمٌ مِنه على الإمام.
وبالجملة فالصواب الأول، وهو نَفْي الحكم كما قاله إمامُ الحرمين في "البرهان"
¬__________
(¬1) في (ز، ض، ت): فرجع.
(¬2) ليس في (ص) عبارة: (لا يخرج عن حُكْم العقل، فبذلك يُعْلَم حُكمه، فيرجع إلى أنَّ العقل هو الحاكم؛ لأنَّ الشرع).
عنه إذا سُمِّي) إلى آخِره.
فأشار إلى انحطاطه؛ بما فيه مِن الاحتمال، هذا مع الاعتضاد، فكيف بالمجرد ولو قيل بحجيته؟ ! وإذا لم يُساوه فكيف يكون أقوى؟ !
الثاني: إلرد مطلقًا. قال ابن عبد البر: وهو قول أهل الحديث.
قال ابن الصلاح: (وهو المذهب الذي استقر عليه [آراء جماهير] (¬1) حفاظ الحديث ونقاد الأثر) (¬2). أي: كما قاله الخطيب في "الكفاية". وبه قال القاضي أبو بكر من الأصوليين.
وفي صدر "صحيح مسلم": ("المرسَل" في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة). وهذا وإنْ قاله مُسْلم على لسان غيره لكنه أَقرَّه.
نعم، ظاهر كلام ابن الصلاح في قوله بالرد إنما هو في غير ما قدمه من "المرسل" المحتج به كما سنذكره عن الشافعي، إلَّا أنه لَمَّا نقل عن مسلم ذلك، ، اقتضى أنَّ مراده الرد مطلقًا، فبَيْن كلامَيْه بعضُ تَنافٍ إنْ لم يُؤوَّل.
الثالث: إنْ كان المرسِل من أئمة النقل، قُبل، وإلَّا فلا. واختاره ابن الحاجب.
الرابع وهو قول عيسى بن أبان: إنْ كان من مراسيل الصحابة والتابعين وتابِعي التابعين ومَن كان مِن أئمة النقل، قُبل، وإلا فلا.
وقد يُدَّعَى اتحاده مع ما قَبْله؛ لأنَّ الظاهر بقوله: (التابعين وتابعي التابعين) مَن هو مِن أئمة النقل منهم، وأما الصحابة فكلهم أئمة النقل. فإنْ أراد عموم التابعين وتابعي التابعين، تَغايرَا، ولكنه بعيد.
¬__________
(¬1) في (ز): رأي.
(¬2) معرفة أنواع علوم الحديث (ص 55).
ص:
522 - "الْأَمْرُ": الِاقْتِضَا لِفِعْلٍ غَيْرِ كَفْ ... مَا لَمْ يُفَدْ بِنَحْوِ "كُفَّ" أَمْرُ كَفْ
الشرح:
الكلام في الأمر في مقامين:
أحدهما: في لفظِه، وقد سبق.
والثاني: في معناه، وهو ما ذكرته في النظم من المختار في تعريفه، وذلك أن الأمر والنهي نوعان من الكلام، وفي كونه حقيقة في النفساني أو في اللساني أو مشتركًا أو في الحادث حقيقة في اللساني -مذاهب سبق بيانها، فالتعاريف مَبنية على ذلك.
فمِن المعَرِّفين مَن يلاحظ في تعريفهما النفساني فقط، ومنهم مَن يلاحظ اللفظي فقط، ومنهم مَن يلاحظهما معًا.
فالأول: طريقة القاضي وإمام الحرمين، قال القاضي في "مختصر التقريب": الأمر الحقيقي معناه قائم بالنفس (¬1)، والعبارات دالة على ذلك المعنى.
وسيأتي كلامه بتمامه لغرض آخَر، وعَرَّف هو وإمام الحرمين "الأمر" بأنه: القول المقتضي بنفسه طاعة المأمور بفعل المأمور به (¬2).
فأخرجَا بقولهما: "بنفسه" الصِّيَغ الدالة على الاقتضاء؛ لأن دلالتها بواسطة الوضع.
وبيَّنا أن المراد بالقول النفسى، وأن التعريف للأمر النفساني، فإسقاط ابن الحاجب -في
¬__________
(¬1) انظر: التقريب والإرشاد (2/ 5).
(¬2) التقريب والإرشاد (2/ 5)، البرهان في أصول الفقه (1/ 151)، التلخيص في أصول الفقه (1/ 242).
فالأول: عام مِن جهة حمل الخبث وهو التنجيس فيما تَغير وما لم يتغير، وخاص مِن جهة ما دُون القلتين.
والثاني: عام مِن حيث القُلتين ودُونهما، وخاص مِن حيث التقييد بالتغيير.
وليس تخصيص عموم أحدهما بخصوص الآخِر بِأَوْلى مِن عكسه، فيوقف حتى يرجح أحدهما على الآخَر بدليل كما سيأتي.
وقد مَثَّله ابن السمعاني بما سيأتي من آيتَي المتعة.
ومثَّله ابن الحاجب بما لو قيل: (في الأنعام زكاة). فإنَّ عمومه حينئذٍ يُخَص بمفهوم حديث: "في سائمة الغنم الزكاة". إلا أن الأول ليس حديثًا، خِلافًا لما تَوهمه الشيرازي في "شرحه".
فإنْ قيل: العام لفظ، فكيف يُعمل بالمفهوم في تخصيصه ومن شَرْطه أن لا يعارضه ما هو أقوى منه؟
قيل: هو مِن حيث كونه خاصًّا أقوى مِن العام وإنْ كان العام مِن حيث كَوْنه نُطقًا أقوى؛ فتعارضا؛ فيُعمل بهما؛ جمعًا بين الدليلين.

تنبيهات
الأول: إنما يُخَص بدليل الخطاب على رأي مَن يجعله دليلًا؛ حتى يكون جمعًا بين الدليلين. وإنما يكون التخصيص بالفحوى حيث لم يُجعل مِن باب القياس، وإلَّا فهو تخصيص بالقياس، وسيأتي.
وحيث لم يُجعل من الإطلاق العُرفي أو نحوه فيكون تخصيصًا بلفظ، لا بمفهوم.
الثاني: قال الآمدي: (لا نَعرف خلافًا بين القائلين بالعموم وبالمفهوم أنه يجوز
ونَصه في القديم لَّمَا ذكر الصحابة - رضي الله عنه - قال: (وهُم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم أو استنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأَوْلى بنا مِن آرائنا عندنا لأنفسنا).
إلى أن قال: (إنِ اجتمعوا، أخذنا باجتماعهم. وإنْ قال [واحدهم إنْ] (¬1) لم يخالفه غيره، أخذنا بقوله. فإنِ اختلفوا، أخذنا بقول بعضهم، ولم نخرج عن أقاويلهم).
وله في نَص آخَر: (إنِ اختلفوا، نظرنا إلى الأكثر، فإنْ تكافئوا، نظرنا إلى أحسن أقاويلهم مخرجًا عندنا) (¬2). انتهى
ويتفرع على هذا القول: إذا اختلف صحابيان، كانا كدليلين تَعارَضَا، فيرجح أحدهما بدليل كما أشار إليه الشافعي فيما نقلناه من النصوص.
فخرج مِن ذلك قول رابع: إنه حجة إذا لم يخالفه غيره من الصحابة، وإلا فيؤخَذ بِقَول الأكثر أو غير ذلك مما سبق.
والمذهب الخامس: إنه حجة لكن دُون القياس. أي: حتى يُقَدَّم القياس عليه عند التعارض.
وعلى هذا فهل يخصَّص العموم به؟ وجهان حكاهما الرافعي في الأقضية بلا ترجيح. أما الجواز فلأنه حجة شرعية، وأما المنع فلأنه محجوج بالعموم، فقد كان الصحابة يتركون أقوالهم إذا سمعوا العموم.
السادس: إنِ انتشر ولم يخالَف فهو حجة. ونقله الأصوليون عن القديم أيضًا، وكلام ابن الصباغ يُشْعِر بأنه في الجديد أيضًا؛ فإنه قال في "العدة": إنما احتج الشافعي بقول عثمان
¬__________
(¬1) كذا في (ص، س)، لكن في (ق): واحد و.
(¬2) انظر: المدخل إلى السنن الكبرى (ص 110 - 111).

الصفحة 172