والغزاليُّ وابنُ السمعاني وغيرُهم. وقال النووي في "شرح المهذب": (إنه الصحيح عند أصحابنا) (¬1)؛ إذِ المراد بِنَفْي الحكم إنما هو نَفْي التعلق، والتعلق حادث كما سبق؛ فلا محذور، فاعْلَمه.
وقيل: بل [المَنْفِي العِلم] (¬2)؛ لأنَّ الأشعري يقول بالتكليف بالمُحَال. وفيه نَظَر؛ لأَنَّه مِن تكليف المُحَال؛ لأنه جاهل بذلك.
أمَّا بَعْد وُرُود الشرع في صورة لا يوجد فيها حُكْمٌ في الشرع أصْلًا ففيها ثلاثة أقوال:
- الحظْرُ؛ لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] الآية، [يدلُّ] (¬3) على أنَّ التحريم كان سابقًا.
- والإباحة؛ لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
- والوَقْف؛ لِتَعَارُض الدليلين.
وقولي: (قَبْلَهُ) الضمير فيه عائد إلى الشرع.
وقولي: (وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلِيُّ كُلَّهُ) أَيْ: القاعدة وأصْلها وما تَفَرَّع منها مِمَّا بَيَّنَّاه، فاللام في "المعتزلي" للجنس.
وذكرتُ الخلاف هنا وإنْ كان موضوعُ هذا النَّظْم تجريده مِن الخلاف والدليل؛ لِمَا ذَكرْتُ أنَّ المراد أنِّي لا أَلْتَزِمُ فيه ذلك، وليس مُرادي التزام أنْ لا أَذْكُره، فَقَدْ أذكره تبرعًا، وسيأتي في الكتاب مواضع مِن ذلك أُنَبِّه عليها إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
¬__________
(¬1) عبارة النووي في "المجموع شرح المهذب، 1/ 264": (وَقَوْلُهُمْ: "أَصْلُ الْأَشْيَاءِ الإباحة" ليس كذلك، بل مذهب داود أَنَّهَا عَلَى الْوَقْفِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ).
(¬2) من (ز، ظ).
(¬3) في (ق، ش): فدل. وفي (ت): تدل.
نعم، هُما في الحقيقة راجعان إلى قبول المراسيل مطلقًا، إذِ المراد بأئمة النقل أهل الجرح والتعديل، ومَن ليس كذلك لا يقول أحد بقبول مرسَله، لأنَّ اعتماد القائلين له إنما اعتمدوا على أنَّ تركه تعديلٌ له وإلَّا لَمَا جاز له الجزم بأنَّ المحدَّث عنه صَدَر ذلك منه.
لكن اختار ابن برهان في "وَجِيزِه" قريبًا من ذلك، وهو: مع كوْنه مِن أئمة النقل أنْ يكون مذهبه في الجرح والتعديل موافِقًا لمذهب مَن يريد العمل بمرسَله في ذلك.
الخامس: وهو ما اقتصرتُ عليه في النَّظم؛ لأنَّه مذهب الشافعي الذي نَصَّ عليه، وهو أرجح الأقوال: أنَّ "المرسَل" لا يُحتج به بمجرَّدِه.
ومن ألطَف ما استدل به الشافعي في ذلك وتداوله الناس عنه- كالغزالي وغيره- الإجماع على رد "المرسل" في الشهادة، وأهي، (¬1) أنْ لا يَذكر الشاهد مَن شهد على شهادته. ولم يجعلوا تركَه تعديلًا له؛ أفكذا، (¬2) الرواية؛ إذْ لا فارق بينهما فيما يرجع إلى العدالة.
نعم، إذا انضم إلى "المرسَل" ما يتقوى به، يكون حجة.
فمن ذلك إذا كان المرسِل له ممن عُرف أنه لا يروي إلَّا عن عدلٍ وقد اعتُبِرَت مراسيله فوُجدت مسانيد، كسعيد بن المسيب - رضي الله عنه -.
لكن هل يحتاج "مُرْسَلُه" إلى انضمام ما يؤكده -كما سيأتي- مِن مُرْسَل غيْره؛ أو لا؛ قال الماوردي في "باب بيع اللحم بالحيوان": (إنَّ القديم (¬3): يُحتج به؛ لأنه لا يرسِل حديثًا إلَّا ويوجد مُسنَدًا، ولأنه لا يروي إلا عن أكابر الصحابة، وأيضًا فإنَّ مراسيله سُبِرَت
¬__________
(¬1) في (ت): هو.
(¬2) في (ز): فكذلك.
(¬3) يعني: مذهب الشافعي القديم.
النقل عنهما- لفظَة "بنفسه" ليس بجيد.
ثم قال: ورُدَّ -أي: هذا التعريف- بأن المأمور مشتق منه، وأن الطاعةَ موافَقةُ الأمر؛ فيجيء الدَّوْرُ فيهما.
أي: لأن المشتق يتوقف معرفته على المشتق منه، فلو عُرّف به لَتَوَقَّف عليه، فيدور.
وكذا قوله: "طاعة المأمور" أُضيف إلى ما لا يُعْرف إلا بمعرفة الأمر، والمضاف لا يُعْرف إلا بمعرفة المضاف إليه؛ فيدور أيضًا.
وأجاب النقشواني بأن المراد بِـ"المأمور" و"المأمور به" المعنى اللغوي، وهو المخاطَب والمخاطَب به، وبِـ"الطاعة" مطلق الموافقة، فلا دَوْر.
ووجَّه نَفْي الدَّوْر بأمر آخَر، ونازعه الأصفهاني في "شرح المحصول" فيهما.
الثاني: هُم المعتزلة، لَمَّا أنكروا كلام النفس حَدُّوهما تارة باعتبار اللفظ، وتارة باقتران صفة الإرادة، وتارة جعلوه نفس صفة الإرادة.
فقال بعضهم في "الأمر": إنه قول القائل لمن دُونه: "افْعَل"، ونَحْوه.
وأشار بِـ"نَحْوه" إلى شمول سائر اللغات.
وأُورِدَ على ذلك ورُود صيغة "افعل" ونحوها من غير أن يكون طلبًا، بل لتهديد أو تعجيز أو تسخير أو غير ذلك، والمبلِّغ والحاكي لأمر غيْره.
وقال بعضهم: صيغة "افعل" بتجردها عن القرائن الصارفة عن الأمر.
ورُدَّ بأنه تعريف "الأمر" بِـ "الأمر". وإنْ أُسْقِطَتْ، وَرَدَ ما سَبَق وغَيْرُه (¬1).
وقال مَن اعتبر الاقتران بالإرادة: "الأمر" صيغة "افْعَل" بإرادات ثلاث: إرادة وجود
¬__________
(¬1) يعني: إنْ أُسقطت لفظة "بالأمر" مِن التعريف، وَرَدَ عليه ما سبق ذِكْره من اعتراضات.
تخصيص العموم بالمفهوم، سواء [كان] (¬1) مِن قبيل مفهوم الموافقة أو المخالفة) (¬2).
وما ادَّعاه مِن الاتفاق مردود؛ فقد توقَّف الإمام في ذلك ولم يختر شيئًا.
وقال سراج الدين الأرموي: (في جواز ذلك نظر) (¬3).
وجزم الإمام في "المنتخب" بأنه لا يجوز، ونقله أبو الخطاب الحنبلي عن بعضهم.
وقال ابن دقيق العيد في الكلام على الحديث الثاني من "شرح الإلمام" أنه رأَى المنع في ذلك لبعض المتأخرين.
قلت: أما الفحوى إذا لم نَقُل: (إنه قياس أو غيره)، فلا يبعد أنه باتفاق.
قال الصفي الهندي: (لا يستراب في جواز التخصيص بمفهوم الموافقة) (¬4).
أي: ويكون محل الخلاف في مفهوم المخالفة. بل صرح الإمام في "باب النسخ" بأن الفحوى قد يكون ناسخًا باتفاق، وكذا حكى الاتفاق فيه أيضًا الآمدي.
ولهذا لَمَّا نَصَب ابن الحاجب الأدلة في المخالفة هنا، تَبين أنه المراد بالمفهوم في أول المسألة وأنه لم يتعرض للموافقة؛ إذْ لا غرض فيما يكون باتفاق.
وأما المخالفة فيعضد ما سبق مِن الإشارة إلى الخلاف قولُ ابن السمعاني: (يجوز
تخصيص العموم بدليل الخطاب على الظاهر مِن مذهب الشافعي) (¬5).
فقوله: (الظاهر) يُشعِر بالخلاف.
¬__________
(¬1) من (ت).
(¬2) الإحكام (2/ 353).
(¬3) التحصيل من المحصول (1/ 396).
(¬4) نهاية الوصول (4/ 1678).
(¬5) قواطع الأدلة (1/ 184).
في الجديد في مسألة البراءة من العيوب لأنَّ مذهبه أنه إذا انتشر ولم يظهر له مخالِف، كان حجة.
لكن إذا انتشر ولم يخالَف، دخل في قبيل الإجماع السكوتي، وقد سبق الخلاف فيه في "كتاب الإجماع"، فالحجية فيه، لا في مجرد قول الصحابي؛ ولهذا لو كان في غير عصر الصحابة، كان كذلك.
ولهذا وَهَّموا صاحب "الحاصل" والبيضاوي في حكايته في هذه المسألة، وإنما حكاه الإمام في المسألة الآتية، وهي أنه هل يجوز لمجتهدٍ غيره أنْ يُقَلده؟ [أو] (¬1) لا؟
السابع: إنْ خالف القياس، كان حجة، وإلا فلا. قال ابن برهان في "الوجيز": هذا هو الحق البين، وإنَّ نصوص الشافعي تدل له.
الثامن: حجة إنِ انضم إليه قياس التقريب. حكاه الماوردي قولًا للشافعي، فقال: إن قياس التقريب إذا اعتضد بقول الصحابي، كان أَوْلى مِن قياس التحقيق.
قلت: فيه نظر؛ لأنَّ هذا في قياسين يطلب الترجيح فيهما، فيقال: يُقَدَّم قياس التقريب بانضمام قول الصحابي، لا أنَّ قول الصحابي وَحْده حينئذٍ هو الحجة، بل المجموع مُقدَّم على ما عارض مِن قياس آخَر.
التاسع: حُجة إذا انضم إليه قياس مطلقًا. حكاه العلائي عن إشارة الشافعي في "الرسالة" الجديدة إليه.
قلت: وفيه النظر السابق في الذي قبله.
ونحوه ما حكاه ابن الصباغ عن بعض الأصحاب أن القياس الضعيف إذا اعتضد
¬__________
(¬1) في (ق): أم.