كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

ص:
83 - وَمِن تَعَلُّقِ الْخِطَابِ في الْأَزَلْ ... يُعْلَمُ أنَّ كُلَّ مَعْدُومٍ دَخَلْ
84 - لَكِنْ عَلَى "مَعْنَى": إذَا يُؤَهَّلُ ... يَكُونُ بِالْحُكْمِ الْقَدِيمِ يَفْعَلُ
الشرح: أيْ: ومما يُعْلَم مِن هذا القَيْد أيضًا (وهو إضافة الخطاب لله تعالى المقتضية لِكَوْن الحُكم قديمًا؛ لأنَّ خِطابَه تعالى كلامُه، وهو قديم على مذهب أهل السُّنة في أنه صفة قديمة قائمة به وهي الكلامُ النفساني (¬1)، خِلَافًا لِمَن زعم أنَّ كلامه حَرْفٌ وصوتٌ قائمان به فَيَكونان قديمين كما يُنْقَل ذلك عن الحنابلة، وخِلَافًا لِمَن قال: إنَّ كلامه حَرْفٌ وصوتٌ [لا قائمان] (¬2) به، بل حادثان يخلقُهما فيما شاء مِن شجر ونحوه كما هو مذهب المعتزلة (¬3)، [قالوا: كما كلم موسى كذلك] (¬4). وفسادُ المذهبين ظاهرٌ؛ لأنَّ الحادث لا يَقُوم بالقديم، ولا يُوصَف أَحَد بما لَمْ يَقُم به) أنَّ خطاب المعدوم جائز (¬5)؛ لأنه إذَا ثَبتَ الكلام النفساني وقِدَمُه (خِلَافًا للطائفتين) وَثَبتَ أنَّه مُتَعَلِّق بأفعال المكلَّفين وهُم معدومون في الأزَل، ثَبتَ أنَّ المعدوم داخِلٌ في الحكم، وأنه محكوم عليه بالأحكام كُلها في القِدَم لا عَلَى معنى أنه مخاطَبٌ بأنْ يأتي بها في حال عَدَمه (لأنه ظاهر الفساد)، وإنما المراد أنه إذَا وُجِدَ وَوُجِدَتْ فيه أَهْلِيَّة
¬__________
(¬1) سبق تعليقي على هذه المسألة في مقدمة تحقيقي هذا الكتاب (ص 31)، ولَيس هذا موضع بسط هذه المسألة.
(¬2) كذا في (ص، ت)، لكن في (ز، ظ): لكن لا قائمين.
(¬3) في (ز) بعد كلمة "المعتزلة" زيادة: (قالوا: كما كَلَّم موسى كذلك).
(¬4) من (ز، ظ).
(¬5) كأنَّ الكلام هكذا بعد حذف العبارات الاعتراضية التي بين القوسين: ومما يُعْلَم مِن هذا القَيْد أيضًا أنَّ خطاب المعدوم جائز.
فكانت مأخوذة عن أبي هريرة؛ لِمَا بينهما مِن الوصلة والصهارة (¬1)؛ فصار إرساله كإسناده عنه. ومذهب الشافعي في الجديد أنَ مرسَل سعيد وغيره ليس بحجة، وإنما قال: مرسَل سعيد عندنا حسن بهذه الأمور التي وصفناها) (¬2).
يشير بذلك إلى العواضد التي قَدَّمها وسيأتي بيانها، قال: (استئناشا بإرساله، واعتمادًا على ما قارَنَه مِن الدليل؛ فيصير "المرسَل" مع ما قارنه حُجة) (¬3). انتهى
فظاهره أنَّ الجديد الاحتياج للعاضد، وهو خِلاف ما حكاه ابن الصلاح عنه من كونه لا يحتاج بخلاف مرسل غيره.
أنعم، (¬4)، هو ظاهر نَص الشافعي في "الرهن الصغير"، فإنه لَمَّا قيل له: فكيف قَبلتم عن ابن المسيب منقطعًا ولم تقبلوه عن غيره؛ :
(قُلنا: لا نحفظ أن ابن المسيب روى منقطعًا إلَّا وُجد ما يدل على [مسنده] (¬5)، ولا نَأْثرُ روى عن أحد فيما عرفناه عنه إلَّا ثقة معروفا، فمَن كان مِثل حاله، قَبلنا منقطعه) (¬6).
قال: (ورأينا غيره يُسمِّي المجهول ويُسمي مَن رُغبَ عن الرواية عنه، ويرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرسل عمن لم يَلْحَق من الصحابة المستنكَر الذي لا يوجد له شيء [يرده] (¬7)، ففرقنا
¬__________
(¬1) قال الماوردي في (الحاوي الكبير، 5/ 158): (إنَّ سَعِيدًا كَانَ صِهْرَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ابْنَتِهِ).
(¬2) الحاوي الكبير (5/ 158).
(¬3) الحاوي الكبير (5/ 158).
(¬4) كذا في (ز، ق، ظ، ت)، لكن في (ص، ض، ش): بل.
(¬5) كذا في (ز، ق، ش). وفي سائر النُّسخ: سنده.
(¬6) الأم (3/ 192).
(¬7) كذا في جميع النُّسخ. واللفظ في (الأُم، 3/ 188): يسدده.
اللفظ، وإرادة دلالتها على الأمر، وإرادة الامتثال.
واحترزوا بالأول عن نحو النائم، وبالثاني عن نحو التهديد، وبالثالث عن نحو المبلِّغ.
ورُدَّ بأنه كلام متهافت؛ لأن المراد بِـ"الأمر" في قوله: (دلالتها على الأمر) إنْ كان اللفظ، فَسدَ؛ لقوله: (وإرادة دلالتها على الأمر)، واللفظ غير مدلول عليه، فكأنه اشترط دلالة الشيء على نفسه.
وإنْ كان المعنى (أي: معنى الصيغة)، فسد؛ لقوله: (الأمر صيغة افعل)؛ لأن "الأمر" -على تقدير إرادة المعنى- يكون غير صيغة "افْعَل".
وقال مَن اعتبر منهم نفس الإرادة: إن الأمر إرادة الفعل.
ورُدَّ بأن السلطان لو أَنكر -مُتوعِّدًا بالإهلاك- ضَرْبَ سَيِّدٍ لِعَبْده، فادَّعَى السيدُ أنه يخالِفه فيما يأمره به، فأَمَره -لتمهيد عُذْره- عند الملِك، فإنَّ ذلك إنما يكون لمخالفته، فهو يأمره ويقصد مخالفته؛ فانْفَكَّ "الأمر" عن الإرادة.
ويمكن أن يجاب بأن الموجود هنا صيغة الأمر، لا نفس الأمر.
وأيضًا فَيَرِد مثل ذلك على الطلب؛ لأن العاقل كما لا يريد هلاك نفسه لا يطلب هلاك نفسه. كذا أورده الآمدي، وقال ابن الحاجب: إنه لازم (¬1).
وقد يجاب عن الأخير أيضًا بأن الموجود صيغة الطلب، لا الطلب.
سلَّمْنَا، وقولكم: (العاقل لا يطلب هلاك نفسه) إنْ أريد به المقرون بالإرادة فمُسَلَّم ولا نُسَلم أنه موجود هنا، أو العاري عنها فممنوع.
قال ابن الحاجب تبعًا للآمدي: (والأوْلى -أَيْ في الرد عليهم في دعوَى أن الأمر
¬__________
(¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل (1/ 651)، الناشر: دار ابن حزم، تحقيق: د. نذير حمادو.
ثم قال: (ومثاله في الكتاب قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241]، فإنه عام في كلِّ مُطلَّقة).
ثم قال: ({لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 236] الآية، فكان دليله- أيْ "دليل الخطاب" وهو المفهوم -أنْ لا متعة للمدخول بها، فخَصَّ بها -في أظهر قوليه- عموم المطلقات، وامتنع مِن التخصيص بها في القول الآخر) (¬1). انتهى
وقضيته تخريج قولين للشافعي في تخصيص العموم بالفهوم، وهو فائدة جليلة.
نعم، المرجَّح المنقول عن الجديد أن المدخول بها لها المتعة على خِلاف ما اقتضاه كلام ابن السمعاني، وعلى خِلاف ما تقتضيه قاعدة الأصول التي ذكرناها، فإنها إنما توافق القديم وهو المنع في المدخول بها.
لكن أبو الحسين بن القطان جعل ذلك من باب ذِكر بعض أفراد العموم، فإن قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] شامل لمن دخل بها ومَن لم يدخل بها، ولمن لها فرض ولمن لا فرض لها. وقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] أي: التي لم يمسها والتي لم يفرض لها، وهو بعض أفراد المطلقات، فلا منافاة.
قال: (هذا على قول للشافعي، وعلى القول الآخَر يخصُّ بآية: {وَمَتِّعُوهُنَّ} عموم آية: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ}؛ لأن مفهومها أنَّ مَنْ مُسَّت أو فُرض لها، لا متعة لها) (¬2).
قال: (وقد قيل: إن آية {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] غير مَسُوقة لتعريف حُكم المتعة، بل للفرق بين الموسر والمعسر، فإنما يخصَّص العموم بما وَرَد مِن الخاص لأجل التخصيص، لا لمعنى آخَر). انتهى بمعناه.
¬__________
(¬1) قواطع الأدلة (1/ 185).
(¬2) قواطع الأدلة (1/ 185).
بقول الصحابي كان أَوْلَى من القياس القوي.
فإنْ جعلنا القياس الضعيف أَعَم مِن قياس التقريب وغيره، كان قولًا آخَر مغايرًا لِمَا سبق.
العاشر: قول الصحابي حُجة إذا كان مِن قول أبي بكر وعمر فقط.
الحادي عشر: إذا كان مِن قول الخلفاء الأربعة. لكن هذا يحتمل عند القائل به أن يكون مِن قبيل الإجماع كما سبق في محله.
الثاني عشر: قول الخلفاء الأربعة إلا عليًّا. وقد أُخذ هذا من قول الشافعي في "الرسالة" القديمة: (إنَّ الصحابة إذا اختلفوا وفي أحد الطرفين أبو بكر أو عمر أو عثمان، رجح) (¬1).
ولم يذكر عليًّا.
وقد حكى القفال في أول "شرح التلخيص" فيه لأصحابنا ثلاثة أَوْجُه: أنه إنما ترك عليًّا اختصارًا؛ لأنَّ حُكمه حُكمهم، أو اكتفاء بذكر الأكثر. واختاره ابن القاص، فقال: إن الشافعي قاله في الثلاثة نصًّا، وقلتُه في عِلي تخريجًا.
ثانيها: أنه إنما لم يذكره لأنَّ الشافعي كان بعض المتعصبين عليه يرميه بالتشيع؛ فنفى الريبة عن نفسه بإسقاطه.
وثالثها: وصححه القفال وجمعٌ: أنه أسقطه؛ لأنه ليس في قوله مِن القوة ما في قولهم، لكن لا لِنَقْص في قوته الاجتهادية - معاذ الله - بل لأنَّ الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الثلاثة كثيرين، فكانوا يستشيرونهم، كما فعل أبو بكر في مسألة الجدة، وعمر في الطاعون، وغير ذلك؛ فكان قول كل منهم كقول أكثر الصحابة. ولَمَّا آلَ الأمر إلى عِلي، خرج إلى
¬__________
(¬1) المدخل إلى السنن الكبرى (ص 110).

الصفحة 174