التكليف، يَكُون محكومًا عليه مَأْمُورًا بأنْ يَمْتَثِل بالحُكم القديم الذي تَعَلَّق به [قُبيل] (¬1) وجوده، لا بِأَمْرٍ آخَر مُتَجَدِّد؛ لأنَّ تَجَدُّد القديم مُحَالٌ، والمتجدد إنما هو الدال على القديم.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وأَقْرَبُ مثالٍ لذلك "الوكالة"، فإنَّ تعليقها باطل على المذهب. فإذَا نجّزها وعَلَّق التصرف عَلَى شَرْطٍ، جاز، وهو الآن وكيل وكالة منجّزة، ولكن لا يتصرف إلَّا على مقتضاها وهو وجدان الشرط) (¬2).
ولَمَّا كانت المعتزلة تُنكِر كلام النفْس مَنَعُوا تَعَلُّق الحُكم بالمعدوم، وحينئذ فيتخَرَّج عَلَى هذا الخلاف الحكم على أطفال المؤمنين بالإيمان وعلى أطفال الكفار بالكفر حتى يجوز سَبْي هؤلاء ودخولهم في الرق. ومنهم مَن قال: إنه حُكم على موجود في العِلم، فليس معدومًا على الإطلاق، بخلاف مَن عَلِم الله أنه لا يوجد.
وأمَّا قَوْل المعتزلة: (يؤدِّي ذلك إلى أمرٍ ونهيٍ ولا مأمورَ ولا مَنْهِيَّ، وهو عَبَث) فَمَبْنِي على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وهي باطلة، عَلَى أنَّ كثيرًا مِن الطوائف وافق المعتزلة في منع تَعَلُّق الحكم بالمعدوم كما هو ظاهر كلام الإمام في "البرهان"؛ ولهذا قال الصفي الهندي: (خِلَافًا للمعتزلة وأكثر الطوائف) (¬3).
نَعَم، نَصَر الإمامُ مذهبَ الأشعري في "الشامل".
واعْلَم أنَّ بِناء هذه المسألة على الأصل السابق وهو أنَّ كلام الله في الأزل هل يُسَمَّى خِطابًا؟ أوْ لَا؟ وقد سبق بيانه.
¬__________
(¬1) كذا في (ص)، لكن في (ز): قبل.
(¬2) رفع الحاجب (2/ 65).
(¬3) نهاية الوصول (3/ 1128).
بينهم؛ لافتراق أحاديثهم، ولم نُحابِ أحدًا، ولكِنَّا قَبِلنا في ذلك بالدلالة البيِّنة على ما وصفنا من صحة روايته) (¬1). انتهى
ويمكن تأويل هذا النص بأنَّ المراد: قبلتم مرسل سعيد بشرطه، ويكون مراد الشافعي التنبيه على أحد الشروط التي نقلها عنه، وهو أنْ يكون المرسِل للحديث إذا سمَّى لا يُسمِّي إلَّا ثقة، فلا يخالف ما نقله الماوردي عن الجديد.
ولهذا قال البيهقي: (إنَّ لابن المسيب مراسيل لم يَقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها، ومراسيل لغيره قَبِلها حين انضم إليها ما يؤكدها) (¬2). انتهى
ومنه يُعْلم أنَّ ذلك لا يختص بسعيد كما هو ظاهر نَص "الرهن الصغير" وإنْ زعم الروياني أنه يقتضي اختصاصه بسعيد، وكأنه نَظرَ أول النَّص دُون قوله بعده: (فمَن كان) إلى آخِره.
وبذلك أيضًا يُردُّ على مَن زعم أنَّ الشافعي يحتج بمرسل سعيد والحسن دُون غيرهما.
قلتُ: ولكون مرسَل سعيد لا بُدَّ له من الاعتضاد قال الشافعي في "المختصر" في باب "بيع اللحم بالحيوان" بعد أن روى عن مالك عن زيد بن أسلم عن ابن المسيب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان" (¬3) وعن ابن عباس: "أنَّ جزورًا نُحرت على عهد أبي بكر الصديق، فجاء رجل بعناق، فقال: أعطوني جُزءًا بهذا العناق. فقال أبو بكر: لا يصلح
¬__________
(¬1) الأم (3/ 188).
(¬2) معرفة السنن والآثار (4/ 445).
(¬3) المستدرك على الصحيحين (رقم: 2252)، السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 10355). قال الألباني: حَسَن. (إرواء الغليل: 1351).
الإرادة- أن يُقال: لو كان إرادة، لَوقعت المأمورات كلها، وأن معنى الإرادة تخصيص الفعل بحالة حدوثه، فإذا لم يوجد الفعل، لم يتخصص) (¬1).
قيل: وإنما يَرِد هذا عليهم لو كانوا يفسرون "الإرادة" بما ذكر، ولكنهم يفسرونها يكون المزيد مُوجِدًا إنْ كان في فِعل نفسه، وإن كان في فِعل غيره بكونه آمِرًا به، ويفسرونها مرة بغير ذلك مما لا ينافي ما ذكروه.
والثالث: وهُم مَن يلاحظ شمول التعريف اللفظي والنفسي؛ لأن اللفظي هو المبحوث عنه في فن أصول الفقه وفي التفسير وعلم النحو والبيان ونحو ذلك، والنفسي إنما هو بحث المتكلمين كما سبق إيضاحه، وهي طريقة التحقيق.
وجرى عليها ابن الحاجب في "مختصره" بقوله: (حد "الأمر" اقتضاء فِعل غير كَف على جهة الاستعلاء) (¬2).
فَجَعْل الأمر الاقتضاء، أَعَم أن يكون في حال كونه نفسانيًّا أو مدلولًا عليه بصيغة، خلافًا لمن زعم مِن الشُّراح أنه إنما عَرَّف الأمر النفساني؛ لأن العمل على الأعم محتمل مع أنه أكثر فائدة.
وكذا البيضاوي -تبعًا لإمامه- حيث قال: (إنه القول الطالب للفعل) (¬3).
أي: سواء أكان ذلك القول نفسيًّا أو لفظيًّا، إلا أنه إذا كان لفظيًّا، كان نسبة الطلب إليه مجازًا؛ لأن الطالب إنما هو المتكلم، فإسناد الطلب لآلَة الطالب مجاز. وإذا كان نفسانيًّا فالإسناد حقيقة؛ لأن القول الطالب في النفس هو نفس الطلب القائم بالنفس.
¬__________
(¬1) مختصر المنتهى (2/ 14) مع (بيان المختصر).
(¬2) مختصر المنتهى (2/ 10).
(¬3) منهاج الوصول (ص 164) بتحقيقي.
ثم قال بعد ذلك: (ومن المخصص أن يأتي بدليل الخطاب، وهو ما كان له وصفان، فتعليق الحكم بأحد وَصْفَيْه يدل على أن ما عدَاه بخلافه. فهذا يُخَصُّ به العموم قولًا واحدًا). انتهى
والجمع بينه وبين ما ذكره أولًا أنَّ ذلك في موضع يتردد بين أن يكون تخصيصًا أو ذِى بعض أفراد العموم. أما إذا لم يحتمل إلا التخصيص، فيُقضَى به قطعًا.
وذكر الصيرفي في "الدلائل" نحو هذا، فقال: (العام إنْ لم يمكن استعماله في جميع أفراده، تَوَقَّف على البيان، كقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فإذا ذكر بعض الأفراد، عُلِمَ أنه المراد بالزكاة المذكورة، كقوله: "ليس فيما دون خمسة أواقٍ صدقة" (¬1). وإنِ احتمل أن يكون المذكور إنما هو بعض الجنس، فالحكم للعموم، كقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} فهذا عام، ثم قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية، فلمَّا احتمل الأول أن يكون خاصًّا بمن لم تمُس وأن يكون ذكر بعض الجنس الذي أريد بالمتعة ولم يَنْفِ - مع الجمع بينهما - أحدُهما صاحبَه، اقتضَى الحكم بذاك لكل مطلقة). انتهى
فإنْ قيل: يَلزم على أنه مِن باب ذِكر فَرد مِن العموم أنْ لا يكون في الآية دليل على أنَّ مَن فُرض لها لا متعة لها، بل لها المتعة كما قدرته فيمن مُست أن لها المتعة.
قلتُ: هو قول [للشافعي] (¬2) أثبتَه ابن سُريج وغيره من الخراسانيين: أنَّ لها المتعة؛ عملًا بعموم المطلقات.
وعلى المرجَّح المشهور أنها لا متعة لها يكون العام قد خُصّص بمعنى مُستنبط من النص، وهو أنها لَمَّا طُلِّقَت قبل الدخول، حصل لها ابتذال، فلما أخذت في مقابِله شطر
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 1340)، صحيح مسلم (رقم: 979).
(¬2) كذا في (ص، ق)، لكن في (س): الشافعي.
الكوفة ومات خَلْقٌ من الصحابة؛ فلم يكن قوله كقولهم؛ لهذا المعنى، لا لنقصان فيه كرم الله وجهه ورضي عنه.
الثاني عشر: إنْ كان الصحابي مَيّزَه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنَّص كزَيْد في الفرائض وعِلي في القضاء ونحو ذلك، فقوله حجة.
الثالث عشر: أنه غير حجة، ولكن يَصلح للترجيح.
الرابع عشر: لا يَصلح للترجيح إلا أنْ يكون أحد الأربعة.
الخامس عشر: إنْ ميزه النَّص فيرجح به. وستأتي هذه الأقوال في "كتاب التراجيح".
وأما الثاني:
وهو أنه هل يُقَلَّد فيما قاله باجتهاده؟ وهو تفريع على أنَّ قوله ليس بحجة، فحينئذٍ هل يجوز لمجتهدٍ تقليده سواء صحابي آخَر أو غيره؟
سيأتي في "باب الاجتهاد" أن المجتهد لا يجوز له أن يقلد مجتهدًا، لكن في خصوص الصحابي ثلاثة أقوال للشافعي، ثالثها عن القديم: إنِ انتشر، جاز تقليده وإلا فلا.
وقد سبق أنَّ هذا محل هذا القول، لا مسألة كَوْنه حُجة أوْ لا.
على أن الحافظ صلاح الدين العلائي لَمَّا نقل أن الغزالي في "المستصفى" أَفْرَد هذه المسألة عن تلك وقال: (إنَّ قول الشافعي اختلف فيها، فقال في القديم: يجوز تقليده وإنْ لم ينتشر. ورجع في الجديد إلى أنه لا يقلِّد العالِمُ صحابيًّا. نقله المزني، وهو الصحيح المختار) (¬1).
وقال المزني في "أدب القضاء": (إنه يشاور، ولا يشاور إذا نزلت به المشكلة إلا أمينًا
¬__________
(¬1) المستصفى (1/ 170).