وذهب عبد الله بن سعيد والقلانسي (مِن أصحابنا) إلى أنه لا يُسَمَّى في الأزل أمرًا ولا نَهْيًا ولا خَبَرًا حتى يوجد المأمور والمنهي والمُخْبَرُ؛ تَعَلُّقًا بهذه الشبهة.
ولكن جوابها أنه يَلْزَم مِن رفع جزئيات الكلام النفساني كلها رَفْعُه؛ إذْ لا يوجَد إلَّا في ضمنها، وَهُم لا يُثْبِتونه؛ فَوَجَب الحكم بأنه في الأزل أمرٌ ونهي وخَبَر وغيرها.
تنبيه:
قِيل: قد تستشكل هذه المسألة مع ما سيأتي مِن أنَّ الغافل غَيْر مكلَّف؛ لأنَّ مُقْتَضَى ما هنا أنْ يَكون الغافل داخِلًا في الخطاب لا على معنى أنْ يَفعل في حال غَفْلته، بل إذَا تَذَكَّر يَفْعَل بِالأمر السابق، بل الغافل أَوْلَى؛ لأنه موجود، فَمَا الفَرْق؟ فإنِ التُزِم أنَّ الغافل مأمور بَعْدَ تَذَكُره بالأَمْر الوارِد حال غَفْلَته فَيَكُونان سواء، فَيُقال: فَلِمَ أفردت هذه المسألة عن تلك؟ !
قلتُ: المُمْتَنِع تكليف الغافل على معنى المباشرة حال الغفلة أو ثبوته في الذمة حتى تزول الغفلة، وأمَّا تَعَلُّق الحكم بالمعدوم فَعَلَى ما سبق تقريره أنْ يُعَلَّق به في الأزَل بالقوة حتى يتأهل فَيَتَعَلَّق به حِسًّا، والغافل وغَيْره في ذلك سواء، فإنَّ التعَلُّق مُسْتَصحَب حتى تَزُول غفلته ويَصِير أهْلًا. فإنْ أُرِيدَ [في الغافل] (¬1) أنْ يتعلق به تَعَلُّقًا جديدًا بهذا الوجه، فلا فائدة فيه. وإنْ أُرِيدَ بالتعلق به أنْ يَفْعَله حال غفلته، فَمُحال؛ فافترقت المسألتان، والله أعلم.
¬__________
(¬1) ليس في (ش).
هذا" (¬1):
(وكان القاسم بن محمد وابن المسيب وعروة وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان). إلى أن قال: (ولا نَعْلم أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف في ذلك أبا بكر، وإرسال ابن المسيب عندنا حَسَن) (¬2). انتهى
نعم، اختلف الأصحاب في قوله: (حسن) على وجهين حكاهما الشيخ أبو إسحاق والبغوي والخطيب في "الكفاية":
أحدهما: معناه: محتج به. وصرح القفال في "شرح التلخيص" بنقله عن النص، فقال: قال الشافعي: مرسَل ابن المسيب عندنا حُجة.
والئاني: معناه: يرجح به وإنْ لم يكن حُجة. وصححه الخطيب.
فإنْ قيل: ما المراد بأنها تُتبعَتْ فَوُجِدَت مسانيد؟
أيْ: تُتبعَتْ كُلها فظهر أن سعيدًا أسندها مِن غيْر هذا الطريق؟
أو: [أنها] (¬3) تُتبعَ غالِبُها فكانت كذلك، فكأنها كلها مُسْنَدة؛ إلحاقًا للأقل بالأغلب؟ أو: تُتبعت فوُجدت كلها مسندة مِن غير طريق سعيد؛ فَحُكِمَ على الكل بذلك؟
فالجواب: أنَّ الظاهر إرادة الثاني؛ إذْ لو أُرِيدَ الأول لكانت مسانيد، لا مراسيل؛ لخروجها عن الإرسال بمجيئها مسندة مِن هذا الوجه؛ ولهذا قال الخطيب: إنَّ [مراسيل سعيد منها] (¬4) ما لم يوجد مسندًا بحال مِن وَجْهٍ يَصِح.
¬__________
(¬1) شرح السنة (8/ 76 - 77)، معرفة السنن والآثار (4/ 316).
(¬2) مختصر المزني (ص 78).
(¬3) في (ز): انه.
(¬4) كذا في (ز، ظ، ض). وفي (ص، ش): من مراسيل سعيد منها. وفي (ق): من مراسيل سعيد.
نعم، على التعريفين اعتراضات كثيرة تظهر من شرح ما [اخترته] (¬1) في النظم في تعريفه، وهو: اقتضاء فِعل غَيْر كَفٍّ مدلول عليه بغير صيغة "كُفَّ" أو "لِتكفَّ" أو نحو ذلك.
فَـ"الاقتضاء" جنس، والمراد به الطلب، أَعَم أن يكون قائمًا بالنفس أو مدلولًا عليه بصيغة.
وخرج عنه نحو: التهديد والحكاية، لانتفاء الاقتضاء. ولا يقال: (خرج به)؛ لأن الجنس لا يخرج به؛ لأنه للإدخال، لا للإخراج.
نعم، حكى أبو [المحاسن] (¬2) المراغي في "غُنْية المسترشِد" عن الإِمام محمَّد بن يحيى أن: (تفسير أمر الله تعالى بالطلب محُال؛ لأن الطلب [مَيْل] (¬3) النَّفْس، وهو مُنَزَّه عنه، فيجب تفسيره بالإخبار عن الثواب والعقاب). انتهى
واعترض بعضهم على التعريف بالطلب بأن الطلب أَخْفَى من الأمر، فكيف يُعرف به؟ !
والجواب عن الأمرين بأن الطلب معنًى قائم بالنفس، لا ميلها أو نحوه مما يليق بالمخلوق.
والطلب بَدِيهِيُّ التصور؛ لأن كل أحد يفرق بينه وبين غيره، ويفرق بين طلب الفعل والترك، فليس تعريفًا بالأخفَى.
وبإضافة الاقتضاء للفعل يخرج الاستفهام، فإنه طلب إعلام وإخبار، لا إيجاد فعل.
¬__________
(¬1) في (ق): احترزت.
(¬2) في (ق): الحسن.
(¬3) كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ، ق، ت): فعل.
المفروض، سواء سُمِّي لها مهر صحيح أو وجب لها مهر المثل بأنْ كان المسمَّى فاسدًا أو سكت عن ذكر المهر.
ثم قال الصيرفي: (وقد يحتمل أيضًا -على جواب الشافعي في المجمل والمفسر- أن يكون قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} مرتبًا على قوله {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ما لم تَقُم دلالة على الجمع، وقد قامت الدلالة بقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28]، وقد عُلِم أنهن مدخول بهن، فثبتت المتعة للممسوسة وغيرها بهذا الدليل). انتهى
الثالث:
في كَوْن "مفهوم المخالفة" بمنزلة اللفظ أو القياس وجهان حكاهما سُليم، أصحهما الأول، وينبني عليهما ما إذا عارضه لفظ آية أو خبر، هل يُقَدَّم عليه؛ أو هُما بمنزلة لفظين؟
الرابع:
محل الخلاف في التخصيص بدليل الخطاب إذا عارضه غير النطق الذي هو أصله. فإن عارضه النطق الذي هو أصله، فإما أنْ يُسقِطه ويُبطله، وإما أنْ يُخصِّصه فقط.
فإنْ كان الأول، فيسقط المفهوم، كحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" (¬1) مفهومه يقتضي جوازه بالإذن، لكن لو عُمل به لأدَّى إلى مخالفته للمنطوق الذي هو بغير الإذن، وحُكمه البطلان. وقد ثبت بالإجماع أنهما مستويان، فإنْ جاز بغير الإذن، جاز بالإذن، وإنْ مُنع بغير الإذن، مُنع بالإذن، فيكون بهذا المعنى مُسْقطًا لأصله.
وإنْ كان الثاني، فيسقطه أيضًا على المرجَّح، نحو: "إن الله حرم الكلب وحرم ثمنه (¬2).
¬__________
(¬1) سبق تخريجه.
(¬2) سنن الدارقطني (3/ 7)، المعجم الكبير للطبراني (12/ 102) وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثَمَنُ =
عالمًا بالكتاب والسنة والآثار وأقاويل الناس ولسان العرب). ثم قال بعد ذلك: (فأما أنْ يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بَعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). انتهى
قال: (فأطلق اسم "التقليد" على الرجوع إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حُجة قطعًا، وكذلك قوله في تقليد الصحابي لاسيما مع ما تكرر من قوله في غير موضع من النهي عن التقليد والمنع منه) (¬2). انتهى
أما تقليد العوام لواحد من الصحابة ففيه خلاف حكاه إمام الحرمين، وقال: (إن المحققين على الامتناع) (¬3).
وليس هذا لأنهم دُون المجتهدين غير الصحابة، فَهُم أَجَلّ قَدْرًا، بل لأنَّ مذاهبهم لا يُوثَق بها، فإنها لم تثبت حق الثبوت كما ثبتت مذاهب الأئمة الذين لهم أتْباع.
وبهذا جزم ابن الصلاح في كتاب "الفتيا"، وزاد أنه لا يُقَلَّد التابعون أيضًا ولا غيرهم ممن لم يُدَوَّن مذهبهم، وإنَّ التقليد يتعيَّن للأئمة الأربعة دُون غيرهم؛ لأنَّ مذاهبهم قد انتشرت وانبسطت حتى ظهر منها تقييد مطلقها وتخصيص عامِّها. وأما غيرهم فنُقلت عنه الفتاوى مجردة، فَلَعَلَّ لها مكملًا أو مقيدًا أو مخصصًا لو انبسط كلام قائله، لَظَهر خلاف ما يبدو منه، بخلاف هؤلاء الأربعة، فامتناع التقليد إذَن لِتَعَذُّر نَقْل حقيقة مذاهبهم.
وذهب غيرهم إلى أنهم يقلَّدون؛ لأنهم قد نالوا رُتبة الاجتهاد، وهُم بالصحبة يزدادون رفعة.
قال بعض المتأخرين: هذا هو الصحيح، لكن الشرط أن يتحقق ثبوت مذهب مَن يُراد
¬__________
(¬1) مختصر المزني (ص 393)، طبعة: دار الكتب العلمية.
(¬2) هذا كلام العلائي في كتابه "إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، ص 44".
(¬3) البرهان (2/ 744).