ص:
85 - نَعَمْ، لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْفِعْلِ ... بَعْدَ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ الْأَصْلِي
86 - مِنْ قَبْلِ أَنْ يُبَاشِرَ الْفِعْلَ إلَى ... فَرَاغِهِ، وَالْفِعْلُ نَقْلًا شَمِلَا
الشرح:
مما يتعلق بالمسألة السابقة وهي تَعَلُّق الحُكم بالمعدوم: تَعَلُّقه بالفعل المعدوم مِن الفاعل الموجود بعد وجود سببه المُقْتَضِي له، كدخول الوقت (مَثَلًا) للصلاة. وهذه المسألة مِن أشكل مسائل أصول الفقه؛ لِمَا فيها مِن اضطراب [المنقول] (¬1) وغموض المعقول، وهي في الحقيقة دخِيلَة فيه، وإنما هي مِن عظائم مسائل الكلام، وهي قليلة الجدْوَى في الفقه، وإنما ذَكَرتُها لِمُناسبتها لِمَا قَبْلها، كالاستطراد.
ومُلَخَّصُ ما فيها مذاهب لِأَهل السُّنة والمعتزلة، نذكرها مختصرة.
أحدها: مما ذكرناه في النَّظْم، وهو تَعَلُّق الأمر بالفعل قَبْل المباشرة له، واستمراره إلى فراغه، وعلى ذلك قولان:
أحدهما: أنَّ التعلق الذي قَبْل المباشرة على معنى الاقتضاء والترغيب، والتعلق حال حدوث الفعل على معنى الطاعة لا الاقتضاء؛ لأنَّ المقصود فيه محققٌ. نقله القاضي (كما في تلخيص الإمام) عن مُحَقِّقي أهل السُّنة، ونقله ابن الحاجب عن الأشعري، وضَعَّفه بما هو مَردود عند المحققين.
والثاني (ونَقَله أيضًا القاضي عن بعض مَن ينتمي إلى أهل الحق): أنه قَبْل الفعل أَمْر
¬__________
(¬1) في (ص): النقول.
وهذا غيْر ما سبق عن البيهقي أن بعضها لم يعتضد، فلا يُظَن اتحادهما.
ولو أُريدَ الثالث -وإنْ أَوْهَمه كلام ابن الصلاح- لَمَا احتاجت إلى مُقَوٍّ آخَر، على أنَّ في اعتبار اجتماعه مع المسنَد المقَوِّي إشكال يأتي تقريره وجوابه. ومما يدل على نَفْي إرادة ذلك قول الشافعي: ولا نَعْلمه يَأْثر إلَّا عن الثقات.
على أنه قد اختلف في اختصاص مراسيل سعيد بما ذكر بحسب الواقع وإنْ كان الشافعي قال: إنَّ مَن كان مِثله، يكون كذلك.
فقيل: يختص، وكأنه قال: (إذا قلتُ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنما أعني أنَّ أبا هريرة أخبرني بذلك). فهو مُسْنَد حُكمًا، ولكنه لَمَّا انحطَّ عن درجة المسنَد الصريح، احتاج إلى المقَوِّي.
وقيل: لا يختص؛ لأنه قد يوجد المعنى المذكور في غيره.
تنبيهات
أحدهما: ما سبق نقلُه عن "نحتصر المزني" من المرسَل في "بيع اللحم بالحيوان" أسنده الترمذيُّ من رواية زيد بن سلمة الساعدي، والبزارُ من رواية ابن عمر، والحاكمُ من حديث الحسن عن سمرة. وقد احتج البخاري بالحسَن عن سمرة، فهذا عاضِد آخَر لمرسَل سعيد زائد على ما في "المختصر".
الثاني: من الفوائد المهمة أنَّ الشافعي قال في "الرسالة" ما نَصه: (وكُل حديث كتبه منقطعًا فقد سمعته متصلًا أو مشهورًا رُويَ عنه بنقل عامة مِن الفقهاء يروونه عن عامة، ولكن كرهتُ وضعَ حديثٍ لا أُتقِنُه حِفظًا، وخفتُ طولَ الكتاب، وغاب عني بعضُ كُتبي) (¬1). انتهى
¬__________
(¬1) الرسالة (ص 431).
ولَمَّا كان الفعل شاملًا للكف كما سبق وطلب الكف يقع على وجهين:
أحدهما: أن يكون بصيغ النهي، مثل: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، و"لا تأكلوا مال اليتيم"، ونحو ذلك.
الثاني: أن يقع بصيغة الأمر، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كف عليك هذا" (¬1). يعني: اللسان، وقوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37]، {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} [الحجر: 3].
أخرجتُ (¬2) النهي بقولي: (غَيْر كَفْ)، لكن بقيد كونه مدلولًا عليه بغير نحو: "كُف"؛ لأنه إذا كان مدلولًا عليه بنحو "كُف"، كان أمرًا، فهو مخُرج من مخرج من الكف، والمخرج من المخرج عن شيء داخِلٌ في ذلك الشيء، فهو وارد على قول ابن الحاجب: "غير كف"، إذ مقتضاه أن كل ما كان مقتضيًا لكف لا يكون أمرًا، بل نهيًا؛ فَيَرِد عليه ما أُخْرِج من المُخرج.
وأما قوله: (على جهة الاستعلاء) فهو على اختياره في اشتراط الاستعلاء، ولكنه ضعيف كما سيأتي.
وأما عبارة البيضاوي فَيَرِد عليها النهي، فإنه طَلَب فِعل، وهو لم يُخْرِجه بشيء.
نعم، في كلام الإِمام الرازي ما يقتضي التقييد للطلب بكونه مانعًا من النقيض؛ ليخرج بذلك أمر الندب، لكن هذا على رأي ضعيف أن "المندوب" ليس مأمورًا به، والصحيح أنه مأمور به، وقد سبقت المسألة في الكلام على تقسيم الحكم في مقدمة الكتاب.
¬__________
(¬1) سنن ابن ماجه (رقم: 3973) بلفظ: (تَكُفُّ عَلَيْكَ هذا). قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 3224).
(¬2) هذه مع ما قبلها هكذا: (لَمَّا كان الفعل شاملًا ... أخرجتُ النهي بقولي ... ).
فإنَّ تحريم الكلب تحريمٌ لجهات انتفاعه مِن بيع وإجارة وغيرهما. وقوله: (وحرم ثمنه) مفهومه أن غير الثمن ليس بمحرم، فلا يُخصُّ به عموم الأول، خلافًا لابن القطان.
وليس هذا كما في استنباط معنى من النص يَعُود بالإبطال أو بالتخصيص؛ لأن ذلك قياس، وسيأتي إيضاحه في "باب القياس". والله تعالى أعلم.
ص:
661 - [كَذَاكَ] (¬1) بِالْقِيَاسِ إنْ جَلِيَّا ... يَكُونُ أَوْ تَعُدُّهُ خَفِيَّا
662 - كَالنِّصْفِ في حَدِّ الزِّنَا لِلْعَبْدِ ... كَأَمَؤ مَنْصُوصَةٍ في الْحَدِّ
663 - قَدْ خَصَّصَا زَانِيَةً وَالزَّانِي ... نَضًّا، وَبِالْقِيَاسِ في ذَا الثَّانِي
الشرح:
مِن المخصِّصات المنفصلة "القياس"، فيُخصُّ به العمومات مِن الكتاب والسنة؛ لأنه دليل شرعي، ففي التخصيص به جمعٌ بين الدليلين.
وأفسد الغزالي هذا الاستدلال بأنَّ القدْر الذي وقع فيه التقابل ليس فيه جمع بين الدليلين، بل هو رفْع للقدْر المعارِض للقياس، وتجريد العمل بالقياس.
قال القاضي تاج الدين السبكي في "شرح المنهاج": (وهذا حسن، وهو مأخوذ من
¬__________
= الْخَمْرِ حَرَامٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ حَرَامٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ حَرَامٌ ... ".
وفي صحيح البخاري (5428) وصحيح مسلم (1567) واللفظ للبخاري: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثَمن الكلب ومهر البغي ... ".
(¬1) في (ص، ق): وذاك.
تقليده، بل لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة؛ إذْ مَن يقول: (يقلَّدون) يقول: (إذا تحقق ثبوت مذهبه)، ومَن يمنع فذلك عند عدم تَحقُّقه.
نعم، في "أوسط" ابن برهان ما يحقق الاختلاف مِن وَجْه آخَر، فإنه بنى تقليد الصحابة على جواز الانتقال في المذاهب، فمَن منعه، منع تقليدهم، لأنَّ فتاويهم لا يقْدر على استحضارها في كل واقعة.
وما قاله حسن.
وقولي: (وَالشَّافِعِيْ وَإنْ يَكُنْ قَدْ وَافَقَا) إلى آخِره - جواب عن سؤال مقدَّر، وهو أنه قد تَقرر أنَّ مذهب الشافعي الجديد أو الأرجح مِن أقواله في الجديد أن قول الصحابي غير حُجة وأنه لا يجوز للمجتهد أنْ يقلد المجتهد منهم، فكيف ذكر الشافعي في مواضع ما يخالف الأمرين؟
فمِن ذلك اتِّباعه لزيد بن ثابت - رضي الله عنه - في الفرائض عند اختلاف الصحابة - رضي الله عنه -، حتى أنه يتردد إذا ترددت الرواية عن زيد، وقال: (قُلْتُه؛ تقليدًا لزيد، وعنه قَبلْنا أكثر الفرائض).
وجواب ذلك أن أصحابه اختلفوا في قوله هذا، فمنهم مَن قال: إنه أراد أنه وافق اجتهادُه اجتهادَه، فليس اتِّباعه في ذلك لكون قوله حجة ولا أنه قلَّده؛ لأنَّ مِن مذهبه امتناع الأمرين؛ ولهذا قال المزني في أول "مختصره": (مع [إعلامِه] (¬1) نَهْي الشافعي عن تقليده وتقليد غيره؛ لينظر فيه لِدِينه، ويحتاط لنفسه) (¬2).
فمعنى قوله: (قبلنا أكثر الفرائض) أي: التي لا نَص فيه ولا إجماع، موافَقةً له في الاجتهاد؛ لأنَّ المجتهد ينظر في أقوال غيره من المجتهدين وفي حججهم، ثم يَقْبَل منها ما
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ش)، لكن في (ق، س، ت، ض): اعلامية.
(¬2) مختصر المزني (ص 7)، ط: دار الكتب العلمية.