إنذار وإعلام، وعند [الحدوث] (¬1) اقتضاء و [إلزام] (¬2). وجَرَى على هذا القولِ الإمامُ وأتباعُه، ولَمْ يُعَرِّجُوا على ما قَبْله.
نَعَم، ضَعَّفه إمام الحرمين في "البرهان" بَعْد أنْ نَقَله عن أصحاب الشيخ بما معناه أنه يَلْزَم مِنْه تحصيل الحاصل، وأنه لا يرتضيه لِنَفْسه عاقِل.
المذهب الثاني: وحكاه القاضي عن القدرية (أَيْ المعتزلة)، أنَّ التعلق قَبْل الحدوث وينقطع عند الحدوث، ثم اختلفوا في مقدار زَمَن التقدم، فَقِيل: بِوَقتٍ واحد. والأكثرُ: بأوقات.
ثم اختلف هؤلاء: هل يشترط اجتماع شرائط التكليف في كل الأوقات؟ أو عند حدوث الفعل؟ وأمَّا قَبْله فالشرط كَوْنُ المخاطَب ممن يَفهم الخطاب.
ثم اختلفوا مِن وجْهٍ آخَر: هل يشترط أنْ يَكون فيما قَبْل الفعل بأوقات لطف ومصلحة [زائدٌ ذلك] (¬3) على التبليغ مِن المبلغ والقبول مِن المخاطَب؟ أوْ لَا؟ هذا معنى كلام القاضي، وهو أَثبت منقول.
واختار الإمامُ في "البرهان" مذهبَ المعتزلة أنَّ الأمرَ قَبْل الحدوث، لا بَعْدَه.
وقال الآمدي: (اتفق الناس على جواز التكليف بالفعل قبل حدوثه، سوى شذوذ مِن أصحابنا، وعلى امتناعه بَعْد حدوث الفعل. واختلفوا في جواز تَعَلُّقه في أول زمان حدوثه، فَأَثْبَته أصحابنا ونفاه المعتزلة) (¬4).
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ز، ض، ش)، لكن في (ت، ض): الحادث.
(¬2) في (ص، ق، ش، ض): التزام.
(¬3) في (ز): زائدة.
(¬4) الإحكام للآمدي (1/ 195 - 196).
وهو يشمل كل منقطع أورده في كُتبه مرسَلًا أو منقطعًا بغير الإرسال، فيكون متصلًا؛ لِمَا ذكره. وقد انكشف بذلك عن الناظر في كلامه غُمة عظيمة، فلله الحمد.
الثالث: قولي: (الَّذِي يُرْسِلُهُ عَنْ صِهْرِهِ أَبِي هُرَيْرَةَ) إشارة إلى ما سبق نقله عن الماوردي؛ لأنَّ سعيدًا كان زوج ابنة أبي هريرة - رضي الله عنه -، والمعنى أنه إذا أرسل، فإنما يريد به ما رواه عن أبي هريرة -كما دل عليه الاستقراء- وإنْ كان قد روى عن غيره من الصحابة، فروى عن عمر كما في السُّنن الأربعة، وعن أُبَي وعن أبي ذر وأبي بكر عند ابن ماجه، وروى عن علي وعثمان و [سعد] (¬1) وأبي موسى وشريك وعائشة، وروى أيضًا عن أبيه وغيرهم في الصحيحين وغيرهما، وروى عنه خلائق، وقد كان رأس علماء التابعين وفقيههم، وُلد سنة خمس عشرة، وقيل: سبع عشرة. ومات سنة أربع وتسعين.
فَ "الَّذِي يُرْسِلُهُ" مبتدأ، خبره الجملة الطلبية وهي "اعْزُهُ"، أي: انْسبه، أو مفعول بفعل مُقَدَّر، أي: اعز الذي يُرسله وارْوِه عن صهره. على قاعدة الاشتغال في العربية، بل هذا أرجح؛ لأنَّ الإخبار بالجملة الطلبية قليل، والله تعالى أعلم.
ص:
334 - وَمَنْ يَكُونُ تَابِعًا كبِيرَا ... كَمَا رَآه الشَّافِعِي تَحْرِيرَا
الشرح:
"مَنْ" هذه في موضع خفض عطفًا على "مَنْ" التي أضيف إليها "مُرْسَلُ" في قولي: (نَعَمْ، يَكُونُ حُجَّةً مُرْسَلُ مَنْ). والمراد استثناء هاتين الصورتين من رَد المراسيل:
إحداهما: مرسَل مَن لم يَروِ إلَّا عن العدول، كابن المسيب.
¬__________
(¬1) في (ص): سعيد.
قال القاضي في "مختصر التقريب": (الأمر الحقيقي معنى قائم بالنفس، وحقيقته اقتضاء الطاعة).
قال: (ثم ذلك ينقسم إلى ندب ووجوب؛ لتحقق الاقتضاء فيهما، وأما العبارة الدالة على المعنى القائم بالنفس كقول القائل: "افْعَل" فمتردد بين الدلالة على الوجوب والندب والإباحة والتهديد؛ فَيُتَوَقَّف فيها حتى يثبت بقيود القال أو قرائن الأحوال تخصيصها ببعض المقتضيات، فهذا ما نرتضيه من المذاهب) (¬1). انتهى
واعْلَم أن بعض شُراح "البيضاوي" جعل التعريف للأمر اللفظي، لا للنفساني، وعاب عليه إطلاق "القول" مع شموله النفساني.
والأحسن حمل كلامه على الأعم كما قررناه؛ لأنه أكثر فائدة.
نعم، أُورِدَ عليه أنه كان ينبغي أن يقول: (الطالب للفعل بذاته)؛ [لتخرج الأخبار المستلزمة] (¬2) للطلب، نحو: "أوجبت عليك كذا"، و: "أنا طالِب منك كذا".
وقد صرح به البيضاوي في تقسيم الألفاظ، وهنا أوْلى بأن يُذكر.
فإنْ قيل: هذا وارد على مختارك أيضًا وعلى ابن الحاجب وغيره، بل وَيرِد كل طلب فعل بصيغة ترَجٍّ أو عرض أو تحضيض أو نحو ذلك مما سبق بيانه في تقسيم الكلام.
قلتُ: المراد هنا الأمر من حيث هو، سواء كان بصيغته الصريحة أو باللازم.
ثم يتبَيَّن بعد ذلك أن صيغته الصريحة الدالة بالذات هي "افْعَل" و"لِتَفْعَل".
بل ولو لم تَرِد صيغة بل كان النفساني فقط، كان أمرًا؛ لأنَّا قد قلنا: إن المراد الأعم.
¬__________
(¬1) التقريب والإرشاد (2/ 5 - 7).
(¬2) في (ت، ق، ظ): ليخرج الإخبار المستلزم.
جواب القاضي في "مختصر التقريب" عن هذه الشبهة) (¬1).
قلتُ: ليس المراد بإعمال الدليلين إعمالهما مِن كل وجه، بل في الجملة وإلَّا لجرى ذلك في كل تخصيص، فإنَّ القدْر المعارِض مِن العام للخاص طُرِح وعُمِل بالخاص.
وأما القدر الذي لا يعارِض الخاص فهو وإنْ كان معمولًا به لكنه ليس الكلام فيه، فظهر أن المراد بإعمال الدليلين إعمال العام في غير ما عارض المخصِّص وإعمال المخصص في المعارِض لبعض أفراد العام.
وقولي: (إنْ جَلِيَّا يَكُونُ) أي: سواء كان القياس جليًّا أو خفيًّا. فـ "جليًّا" خبر "يكون"، قُدِّم عليه، و"خفيًّا" مفعول ثانٍ لـ "تعد"، فإنه يتعدى لمفعولين، كقول الشاعر: (فلا تعدد المولى شريكك في الغنى).
وفي هذا التنبيه على أنَّ لنا قولًا بالتفرقة بين القياس الجلي والخفي، وسيأتي إيضاحه.
والحاصل أنَّ الراجح مِن المذاهب في المسألة التخصيص بالقياس مطلقًا، وإليه ذهب الأئمة الأربعة والأشعري وأبو هاشم وأبو الحسين، وعليه جرى الإمام والآمدي وأتباعهما، إلا أن ابن الحاجب زاد تفصيلًا آخَر يأتي بيانه.
وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أنَّ الشافعي نَصَّ على جواز التخصيص بالقياس في مواضع.
وقال ابن داود في "شرح المختصر": إنَّ كلام الشافعي يُصرِّح بالجواز.
والمذهب الثاني: المنع مطلقًا. قاله أبو علي الجبائي، ونقله القاضي عن طائفة من المتكلمين، منهم ابن مجاهد مِن أصحابنا.
¬__________
(¬1) الإبهاج (2/ 177).
يؤديه إليه اجتهاده، لا تقليدًا لذلك المجتهد، بل نظرًا في حُجته كما [نظر هو] (¬1)، فهو مِن قبيل التوافق في الاجتهاد.
وهذا الجواب يجري فيما سيأتي أيضًا مما يُوهم التقليد كما ستعرفه.
ومنهم مَن قال: إنه تفريع على قول له آخَر أنَّ قول زَيْد في الفرائض حُجة، لا لكونه قول صحابي، بل لحديث: "أفرضكم زيد" (¬2). وقد رواه الحاكم من رواية ابن عمر وأنس بلفظ: "أَفْرَض أُمتي زيد بن ثابت" (¬3). وقال في حديث أنس: صحيح على شرط الشيخين.
وكذلك رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أنس بلفظ: "أَعْلم أُمتي بالفرائض زيد بن ثابت" (¬4). وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وإنْ كان ابن حزم ادَّعى أنه لا يصح، وغوَّش كثيرًا.
فإذا كان الحديث صحيحًا فيكون الأخذ بقول زيد إنما هو للحديث، لا لكونه قول زيد. وهو معنى قولي: (فكَانَ حُجَّهْ لِلشَّرْعِ لَا لِكَوْنِهِ الْمَحَجَّهْ). أي: لا لكون قول زيد هو موضع الحجة في ذاته.
¬__________
(¬1) كذا في (ق)، لكن في (س): يظهر.
(¬2) سنن الترمذي (رقم: 3790)، سنن ابن ماجه (رقم: 154)، صحيح ابن حبان (7131) وغيرها، بلفظ: (وأَفرضهم زيد بن ثابت). قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 3790).
(¬3) المستدرك على الصحيحين (رقم: 7962) بلفظ: (أَفْرَض أُمَّتِي زَيْدُ بْنُ ثَابِت). قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير، ): (وَقَدْ أُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ، وَسَمَاعُ أَبِي قلَابَةَ مِنْ أَنسٍ صَحِيحٌ إلَّا أنَّهُ قِيلَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ هَذَا. وَقَدْ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى أَبِي قِلَابَةَ فِي "الْعِلَلِ").
(¬4) مسند الإمام أحمد بن حنبل (رقم: 12927) بلفظ: (وأَعلمها بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بن ثَابِتٍ).
وفي سنن ابن ماجه (155) بلفظ: (وأَعْلمهم بالفرائض). قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 126).