وتَبعه ابنُ الحاجب إلَّا أنه نَسَبَ القول بِعَدَم انقطاع التكليف حال حدوث الفعل إلى الشيخ الأشعري، والشيخُ لَمْ يَنُص عليه، إنما تُلُقِّيَ مِن قضايا مذهبه، ولا يَخْفَى ما في نَقْلَيهما مِن المخالفة لِلنقول السابقة عند التأمل.
وذكر صاحب "جمع الجوامع" (¬1) أنَّ التحقيق أنَّه لَمْ يَتَعَلَّق إلَّا عند المباشَرة، وأنَّ المَلَام قَبْلها على التَّلَبُّس بالكَفِّ [المَنْهِي] (¬2). واستصوبه بَعْضهم.
قلتُ: وهو عجيب، فإنَّ النهي عن الضِّد فَرْعُ تَعَلُّق الأمر، فإذَا لَمْ يَتَعَلَّق - عَلَى قَوْله - فَكيف يُلام على التلَبُّس بالكفِّ المَنْهِي؟ !
وقد اجتمعت هذه النقول المتفرقة والأقوال المنتشرة بما قررناه، وقد بسطتها في "إيضاح الفصول مِن منهاج الأصول" بما يَتَعَيَّن على مُرِيده الوقوفُ عليه. وفيما أَوْرَدته هنا كفاية في غَرض هذه المنظومة، والله تعالى أعلم.
وقولي: (وَالْفِعْلُ نَقْلًا شَملَا) تَتِمَّتُه ما بَعْدَه، وهو:
ص:
87 - لِلتَّرْكِ؛ فَهْوَ أَنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ ... فَكَانَ مَطْلُوبًا بِنَهْيٍ مَسَّهُ
الشرح: أَيْ: قولنا في تعريف "الحُكم": (المتعلِّق بِفِعل المكلَّف) يَدخُل في الفعلِ "التَّرْكُ"؛ لأنه كَفُّ النفْس، وحينئذ فيتعلق به النهي عَلَى مَعْنَى [أنه] (¬3) المطلوب إيجاده، وكذا الأمر بِالكَف ونحوه هو المطلوب فيه، نحو: "اتْرُك" و"امْسِك" وما أشبه ذلك كما
¬__________
(¬1) جمع الجوامع مع حاشية العطار (1/ 284).
(¬2) في (ش): المنهي عنه.
(¬3) في (ز، ظ): أن.
والثانية: مَن يروي عن العدول وغيرهم ولكنه تابعي كبير، فإنَّ الغالب في مِثله أنْ لا يروي إلَّا عن الصحابة، وهُم عدول، فالغلبة فيما سبق باعتبار نفس المرسل، وفي الثاني باعتبار نوع الرسل، فافترقا.
والتقييد بالتابعي الكبير هو ما قرَّره الشافعي وحرَّره في نَصه الآتي نقله عن "الرسالة" مبسوطًا وشرح ما يشكل منه. والمراد بالتابعي الكبير والصغير سبق بيانه قريبًا.
قولي: (تَحْرِيرَا) مفعول ثاني لِـ "رَأَى"، أيْ: رأَى الشافعي أنَّ هذا القيد هو المحرر. والله أعلم.
ص:
335 - بِشَرْطِ أَنْ يَعْضُدَ كلًّا مُسْنَدُ ... أَوْ قَوْلُ أَوْ فِعْلُ الصَّحَابِي يَعْضُدُ
336 - أَوْ وَفْقُهُ لِمَا يَقُولُ الْأَكثر ... أَوْ مُرْسَلٌ بِمِئْلِ هَذَا يُؤْثَرُ
337 - عَمَّنْ رَوَى لَا عَنْ شُيُوخِ الْأوَّلِ ... أَوِ انْتِشَارٌ أَوْ قِيَاسٌ مُنْجَلِي
338 - أَوْ عَمَلُ الْعَصْرِ بِهِ؛ فَيَحْصُلُ ... حُجَّيَّةُ الْمَجْمُوعِ لَا ذَا الْمُرْسَلُ
339 - مُجَرَّدًا وَلَا الَّذِي لَهُ عَضَد ... مَا لَمْ يَكُنْ لِمُسْنَدٍ قَدِ اسْتَنَدْ
340 - فِإنَّ كُلَّ وَاحِدٍ دَلِيل ... يَنْفَعُ في التَّرجِيحِ مَا [نقُولُ] (¬1)
الشرح:
المراد بقولي: (يَعْضُدَ كُلًّا) كل قسم من القسمين السابقين، وهذا على ما سبق من ترجيح أنَّ مرسَل سعيد بن المسيب ونحوه لا يُعمل به عند الشافعي إلا إذا اعتضد.
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ض، ت، ش، ن 5). لكن في (ز، ظ، ن 1، ن 2، 3، ن 4): يقول.
ولهذا لَمَّا فرغ ابن الحاجب من بيان التعريفات المختارة عنده والمزيف، قال: (إن القائلين بالنفسي اختلفوا في كون "الأمر" له صيغة تخصه).
ثم قال: (والخلاف عند المحققين في صيغة "افْعَل") (¬1).
أي: وأما في دلالة صيغةٍ ما فَبِلَا خِلاف، لكن لا يكون بالوضع. وسنزيد ذلك بيانًا بَعْد.
فإنْ قيل: كيف تدَّعِي أن تعريفك شامل للنفسي واللفظي مع ذِكرك فيه ما يقتضي انطباقه على اللفظي فقط؟ وذلك قولك: (مدلولًا عليه بغير "كُف")، فاقتضَى أن كلامك فيما له صيغة.
قلتُ: المراد بـ"مدلول عليه" أنه لو أُريد الدلالة عليه لَكان بهذا، لا أن المراد أن يكون موجودًا فيه دلالة لفظ "كُف".
قولي: (مَا لَمْ يُفَدْ بِنَحْوِ "كُفَّ")، أي: ما لم يُستفَد بنحو "كف"، أي: مِثل: "أَمْسِك" و"دع" كما سبق، ومنه نحو: "لِتكُف" و"لِتمْسِك"، فإن صيغة الأمر الموضوعة له -كما صرح به ابن فارس وغيره- إما فِعل الأمر وإما المضارع المقرون بلام الأمر، نحو: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47].
نعم، اختلف النحاة أيهما الأصل؟
فالأكثرون أنه "افْعَل"؛ لإفادته المعنى بلا واسطة، و"لتفعل" إنما تفيده بواسطة اللام.
وقيل: الأصل "لتفعل"؛ لأن الأمر معنى، والأصل في المعاني أن يدل عليها بالحروف.
¬__________
(¬1) مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (1/ 651)، الناشر: دار ابن حزم.
والثالث: إنْ خُص العام بغير القياس، جاز بالقياس، وإلا فلا. قاله ابن أبان، ونقله ابن برهان في "وجيزه" عن أصحاب أبي حنيفة.
والرابع: إنْ خُص بمنفصل، جاز بالقياس، وإلا فلا. قاله الكرخي.
والخامس: إنْ كان القياس جليًّا، خُصِّص به، وإلا فلا. وبه قال [ابن سريج وجمعٌ من أصحابنا فيما هو المشهور عنهم وإنْ كان الشيخ أبو حامد نقل عنهم الجواز مطلقًا، ونقل هذه] (¬1) التفرقة عن ابن مروان من أصحابنا، ثم اختلفوا في تفسيرهما:
فقيل: الجلي قياس العلة، والخفي قياس الشَّبه. وسيأتي بيانهما في "باب القياس".
وقيل: الجلي ما تتبادر عِلته إلى الفهم عند سماع الحُكم، كتعظيم الأبوين عند سماع قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}.
وقيل: الجلي ما ينقض قضاء القاضي بخلافه، والخفي خِلافُه. ونقله الشيخ أبو حامد عن الإصْطَخْري. وقيل غير ذلك، وسيأتي بيانه في موضعه.
نعم، قال القفال: هذا التفصيل لا معنى له، لأن الخفي إنْ وجب العمل به فهو دليل شرعي كالجلي، فيُخص به.
والسادس: إنْ تَفاوَت العام والقياس في إفادة غَلبة الظن، رجح الأقوى، أو تساويا، وُقِف. وهو قول الغزالي، واعترف الإمام في أثناء المسألة بأنه حق، وكذا قال الأصفهاني: إنه حق واضح. وكذا الهندي في أثناء المسألة، واستحسنه القرافي أيضًا.
وقال ابن دقيق العيد: إنه مذهب جيد.
¬__________
(¬1) كذا في (ش)، لكن في (ص، ق): (ابن سريج فيما هو المشهور عنه وإنْ كان الشيخ أبو حامد نقل عنه الجواز مطلقًا، ونقل هذه). وفي (ت، س، ض): (ابن سريج وجمعٌ من أصحابنا فيما هو المشهور عنهم وإنْ كان الشيخ أبو حامد نقل عنه).
ومنهم مَن قال: إنه قاله تفريعًا على القول بأن مذهب الصحابي حجة، ولكن الأرجح مقابِله كما دل عليه غير ذلك مِن نصوصه.
ومنهم مَن قال: إنه إنما قال ذلك لأنه ترجح عنده مذهب زيد من وجهين: الحديث السابق، وما قاله القفال: إنه ما تكلم أحد مِن الصحابة في الفرائض إلا وقد وُجِد له قولٌ في بعض المسائل مَهْجُور باتفاق إلا زيدًا ليس في أقواله أبدًا قول هجره الناس. وذلك من مقتضيات الترجيح، كالعمومين إذا وردَا وقد خُصَّ أحدُهما بالاتفاق دُون الثاني، فإنَّ الثاني يكون أَوْلى.
قال الرافعي: (وقد يُعترَض بأنَّ للكلام مجالًا في أنَّ الوجهين هل يوجِبان ترجيحًا؟ وبتقدير التسليم فالأخذ بما رجح عنده إنْ لم يكن بناءً على الدليل في كل مسألة، لَمْ يَخْرج عن كونه تقليدًا، كالمقلِّد يأخذ بِقَول مَن رجح عنده مِن المجتهدين. وإنْ كان بناءً على الدليل فهو اجتهاد وافَق اجتهادًا، فلا معنى للقول بأنه اختار مذهب زيد.
ويجاب عنه بأن الشافعي لم يُخْلِ مسألة عن احتجاج واستشهاد، ولكنه استأنس بما رجح عنده مِن مذهب زيد، وربما ترك به القياس الجلي وعضد الخفي، كقول الواحد من الصحابة إذا انتشر ولم يُعْرَف له مخالِف. فباعتبار الاستئناس قِيل: إنه أخذ بمذهب زيد. وباعتبار الاحتجاج قيل: إنه لَمْ يقلِّد) (¬1).
نعم، مال ابن الرفعة إلى أن الشافعي قلَّد زيدًا.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وليس بجيد؛ لأنَّ المراتب ثلاث:
تقليد كتقليد العامي المجتهد، ولا يُظَن بالشافعي ذلك.
وموافقة اجتهاده، فَقَوي اجتهاده بما وَرَدَ في زيد الذي قد وافقه، وذلك هو ما يُظَن
¬__________
(¬1) العزيز شرح الوجيز (6/ 444).