كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

أَشَرْتُ إليه في البيت الآتي بَعْد ذلك بِقَوْلي: (أَوْ مَا بِمَعْنَاه) عَطْفًا على المجرور وهو "بِنَهْيٍ"، أَيْ: ما بِمَعْنَى النَّهي. وهذا أصح المذاهب في المسألة عند ابن الحاجب وغَيْره.
وثانيها (ويُنْسَب للجمهور): أنَّ المكلَّف به في النهي ونحوه فِعْل الضِد للمنهي عنه. فإذَا قال: (لا تتحرك)، فمعناه: افْعَل ما يُضاد الحركة.
وثالثها (عن أبي هاشم أيضًا): انتفاء الفعل، أَيْ: عدم الحركة في مثالنا، لكن العدَم لا يدخُل تحت القدرة. فإنْ أراد الإعدام، رجع للقول الأول.
ورابعها (وهو ظاهر كلام "المستصفى"): إنْ كان مُجَرَّد التَّرْك مقصودًا من غير ملاحظة ضِدٍّ، فهو المكلَّف به، كالصوم؛ فلذلك وَجَبَت فيه النيَّة. وإنْ كان الملاحَظُ فيه إيقاع [الضِدِّ] (¬1)، فهو المكلَّف به، كالزنا والشرب.
وخامسها: ما في "الدلائل والأعلام" (¬2) لأبي بكر الصيرفي: أنَّ الواجبَ في المنهياتِ (إذَا ذَكَرها) اعتقادُ تحريمها وهو على أول الحال من الاعتقاد.
وسادسها: الكَفُّ بِشَرْط قَصْدِ التَّرْك، حتى يَأْثَم إذَا لَمْ يَقْصد التَّرْك. وهو غريب، نقله [ابن] (¬3) تيمية في "مسودة الأصول" (¬4).
وقولي: (شَمِلَ) هو بِكَسر الميم، وفيه لُغة بالفتح، واللام في "لِلتَّرْك" زائدة؛ لأنه يتعدى
¬__________
(¬1) في (ش): الضد من غير ملاحظة ضد.
(¬2) ذكر البعض أن اسمه: "دلائل الأعلام على أصول الأحكام" أو: "البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام".
(¬3) في (ز، ظ): بنو.
(¬4) الذي في (المسودة، ص 72): (وقيل: إنْ قصَد المكلَّف الكف مع التمكن من الفعل، أُثيب وإلا فلا ثواب ولا عقاب).
والحاصل أنَّ العمل بالمرسَل مطلقًا عنده لا بُد له من مُقَوٍّ.
نعم، شُرط في القسم الثاني زيادة على اشتراط المقوي ثلاثة شروط:
- كونْه مِن كبار التابعين، وقد صرحتُ به في البيت الذي قبله.
- وأن يكون بحيث لو سمَّى لم يُسَمِّ مجهولًا.
- وأنْ لا ينفرد عن الثقات بمعنى مُرسَله.
ولم أصرح بهما في النَّظم؛ لأنَّ الثالث يُفهَم مما سيأتي في "زيادة الثقة"، فإنه يدخل فيه الزائد عمَّا رواه الثقات وزيادة بعض حديث انفرد به عن الثقات. وإذا كان هذا في المسند لا يُقبَل إلَّا بشرط أنْ لا يخالفه الثقات في المعنى، ففي المرسَل أَوْلى.
وأما الثاني فيخرج مِن اشتراط كوْن التابعي كبيرًا؛ لأنَّ العِلَّة فيه إنما هي روايته غالبًا عن الصحابة، وهُم عدول، فهذا في الغالب إذا سمَّى لا يُسمي إلَّا مَن هو معلوم العدالة، لا مجهولها، وحينئذٍ فتصريح الشافعي بهما للإيضاح وللبيان الشافي في ذلك.
فلنذكر نَصه في "الرسالة" بحروفه؛ لِمَا اشتمل عليه من القواعد والفوائد، ونُبيِّن ما قد يحتاج إلى البيان وما تضمَّنه مِن صُوَر الاعتضاد، ثم نذكر ما زاد بعض أصحابه منها مما استُخرج من كلامه في غير ذلك، فأقول:
قال الشافعي - رضي الله عنه - في باب "الحجة على تثبيت خبر الواحد" حيث ذكر أنه قال له قائل: فهل يقوم بالحديث المنقطع حُجة على مَن عَلِمه؛ وهل يختلف المنقطع؛ أو هو وغيره سواء؟ :
(فقلتُ له: المنقطع نحتلِف، فمَن شاهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التابعين فحدَّث حديثا منقطعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، اعتُبِر عليه بأمور:
منها: أن يُنظر إلى ما أَرسل من الحديث، فإنْ شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى
حكى هذا الخلاف العكبري في "شرح الإيضاح"، وقد صرحت في تمثيل الأمر في البيت الثاني بالنوعين، وهو قولي: (كَـ "لِتَصُمْ" وَ"صَلِّ") وإن كان دخول لام الأمر على فعل المخاطب المبني للفاعل قليلًا.
ومنه قراءة عثمان وأُبَي وأنس: {فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا} [يونس: 58] بالتاء من فوق، بل ذلك أَقَل من جزمها فعل المتكلم، نحو قوله تعالى: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قوموا فلأُصَلِّ لكم" (¬1). وسواء أكان النوعان في الأمر من فعل ثلاثي أو أكثر؛ فلذلك أتيت بكاف التشبيه في النَّظم.
وشمل التشبيه أيضًا أسماء الأفعال، نحو: "صَهْ" و"مَهْ"، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَهْ، عليكم من العمل ما تطيقون" (¬2). ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - للحسن حين أخذ تمرة من الصدقة: "كخ كخ" (¬3).
وفي معنى ذلك أيضًا المصدر القائم مقام الأمر، نحو: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، ولو حول من النصب إلى الرفع نحو: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196]، {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
والله أعلم.
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 373)، صحيح مسلم (رقم: 658) واللفظ للبخاري.
(¬2) سنن النسائي (رقم: 5035)، وهو في: صحيح البخاري (رقم: 43) بلفظ: (مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ)، صحيح مسلم (رقم: 785) بلفظ: (عَلَيْكُمْ من الْعَمَلِ ما تُطِيقُونَ).
(¬3) صحيح البخاري (رقم: 1420)، صحيح مسلم (رقم: 1069).
لكن جَعْل هذا مذهبًا من المذاهب في المسألة لا يستقيم، فإنه أمر كُلي لا تَعلُّق له بخصوص المسألة، ولا أحد ينازع فيما قرره مِن أَرْجَح الظنَّين ولا في الوقف عند الاستواء، فتأمله.
والسابع: الوقف. قاله القاضي وإمام الحرمين.
والثامن قاله الآمدي: إنْ كانت العلة منصوصة أو مجمَعًا عليها، جاز التخصيص، وإلا فلا.
والتاسع: إنْ كان الأصل المقيس عليه مخُرَّجًا مِن عام، جاز التخصيص، وإلا فلا.
والعاشر: ما قال ابن الحاجب: (إنه المختار): إنْ ثبتت العلة بنص أو إجماع أو كان الأصل مخصصًا، خُص العام به، وإلا فالمعتبَر القرائن في آحاد الوقائع. فإنْ ظهر ترجيح خاص لأصل القياس، فالقياس مُرجَّح وإلا فعموم الخبر.
ولكنه آيِلٌ إلى اتِّباع أرْجَح الظنين، فإنْ تَسَاويا فالوقف. وهذا هو رأي الغزالي السابق، فتأمله.
والحادي عشر: يمتنع تخصيص عموم الكتاب به. ويُعزى للحنفية؛ لأن التخصيص عندهم نَسخ، ولا يُنسخ القرآن بقياس ولو كان جليًّا. ولذلك قالوا في الملتجئ للحرم ممن دمه مباح: يعصمه الالتجاء؛ عملًا بعموم: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97].
والشافعي خصص هذا العموم بقياس الملتجئ على غيره ممن وُجِدَ فيه موجِب الاستيفاء لغير الدم مِن الحقوق، لاسيما وقد ظهر إلغاء معنى اللياذ فيما إذا كان القتل في الحرم أو قطع الطريق فيه، فإنهم لا يخالفون في ذلك.
وقولي: (كَالنِّصْفِ) إلى آخِره -هو مثال التخصيص بالقياس كما مَثَّل به ابن السمعاني. فقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} يَعُم الأحرار والأرقاء، فخُصَّ مِن ذلك الأَمَةُ بالنص،
بالشافعي.
وأنْ يقصر الدليل في بعض المسائل بحيث لو انفرد لم ينهض، فيعضده قول زيد؛ فينهض؛ لِمَا عَلِمَه مِن شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لزيد، فهذا قد يسمى تقليدًا، إذْ قد يُسمى الأخذ بقول الصحابي إذا عضده دليلٌ خفي "تقليدًا" كما قال الشافعي في البراءة من العيوب: قُلتُه تقليدًا لعثمان. ففي مذهب زيد أَوْلى؛ لِمَا وَرَدَ من الثناء عليه) (¬1).
على أنَّ قوله في عثمان ذلك إنما هو لكونه انتشر ولم ينكره أحد؛ فيرجع للإجماع السكوتي. والله تعالى أعلم.
ص:
915 - وَهَكَذَا "الْإلْهَامُ": أَيْ إيقَاعُ ... شَيءٍ بِقَلْبٍ مَا لَهُ انْدِفَاعُ
911 - لَهُ اطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ، وَالله ... يَخُصُّ مَنْ شَاءَ بِهِ أَعْطَاهُ
912 - وَلَيْسَ مَا يَحْصُلُ مِن ذَا الْمُلْهَمِ ... بِحُجَّةٍ عَلَى الَّذِي لَمْ يُلْهَمِ
الشرح:
أي: ومن الأدلة المختلَف فيها: "الإلهام"، وهو لُغةً: ما يلقى في الروع. كما يقال: ألهمه الله الصبر، ونحو ذلك. وأما المراد هنا فما سنذكره ولم يذكره أحد من أصحابنا في الأصول إلا ابن السمعاني في "القواطع" نقلًا عن أبي زيد الدبوسي، فإنه ذكره عقب ذِكره إبطال التقليد. وكأنَ الحنفية لَما توسعوا في "الاستحسان" وسبق عن بعضهم تفسيره بِـ "دليل ينقدح في نفس المجتهد تَقْصر عنه عبارتُه" وهذا قريب من معنى "الإلهام"؛ فاستطردوا في
¬__________
(¬1) رفع الحاجب (4/ 512).

الصفحة 180