كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

بنفسه. والضمير في "فكَانَ مَطْلُوبًا" يَعُود على "التَّرْك"، والله أعلم.
ص:
88 - أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ، وَكُلُّ فِعْلِ ... قَدْ عُلِّقَ الْحُكْمُ بِهِ في الْأَصْلِ
89 - يَعُمُّ مَا كانَ مُحَالًا أَنْ يَقَعْ ... لِعِلْمِ رَبِّنا بِأَنَّهُ امْتَنَعْ
90 - كَأَمْرِهِ لِكَافِرٍ أَنْ يُؤْمِنَ ... مَعْ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِ إلَى الْفَنَا
91 - كَذَاكَ مَا مُحَالُهُ لِلْعَادَهْ ... كَحَمْلِهِ لِجَبَلٍ مَا اعْتَادَهْ
92 - وَمَا مُحَالُهُ لِذَاتِهِ كَذَا ... كَجَمْعِهِ الضِّدَّيْنِ، لَكِنْ نُبِذَا
93 - وُقُوعُ ذَيْنِ دُونَ مَا تَقَدَّمَا ... وَالسِّرُّ الِابْتِلَاءُ حَيْثُ حُكِمَا
الشرح: قولي: (أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ) راجِعٌ إلى ما سَبَق كما بَيَّنَّاه.
وقولي: (وَكُلُّ فِعْلٍ) إلى آخِره - إشارة إلى أنَّ مما يدخل أيضًا تحت الفعل (في قولي في التعريف بالفعل) ما وقوعه في الوجود مُحَال، ويُعَبَّر عن هذه المسألة بأنَّ التكليف بِالمُحَال أو بما لا يُطَاق هل يجوز؟ وتحريرُها أنَّ المُحال على ثلاثة أقسام:
- المُحال لِتَعَلُّق عِلْمِ الله تعالى بأنه لا يقع؛ إذْ لو وقع خِلَاف معلومه، لَزِمَ انتفاءُ عِلْمه أو عِلْمُه بالشيء على خِلَاف ما هو عليه، وهو مُحَال.
- والمُحال باعتبار العادة، كَصُعُود السماء ورَفْع الجبل أو الصخرة العظيمة التي لا يُعْتَاد رَفْعُها.
- والمُحال لِذَاته، كالجَمْع بَيْن الضِّدَّيْن، وهو المستحيل العقلي.
فالأول جائِزٌ وواقِعٌ قَطْعًا، وربما عُبِّر عنه بِـ "المستحيل العقلي"؛ لأنَّ جِهَة استحالته تؤول إلى أَمْرٍ عَقْلي، ولكنه خِلَاف المصطلَح.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما رَوى، كانت هذه دلالة على صحة مَن قَبِل عنه وحفظه.
وإنِ انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه مَن يسنده، قُبل ما ينفرد به مِن ذلك وُيعتَبر عليه بأنْ يُنظر هل يوافقه مُرسِلٌ غيرُه ممن قبل العِلم عنه مِن غير رجاله الذين قبل عنهم؛ فإنْ وُجد ذلك، كانت دلالة [تقوي] (¬1) له مرسَله، وهي أضعف من الأُولى.
فإنْ لم يوجد ذلك، نُظر إلى ما يُروى عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قولًا له يوافقه، فإنْ وُجِد يوافِق ما رَوى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسَلَه إلَّا عن أصلٍ يصح إن شاء الله تعالى.
وكذلك إنْ وُجد عوام من أهل العلم يُفتون بمثل معنى ما رَوى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثم يُعتبر عليه بأنْ يكون إذا سَمى، لم يُسم مجهولًا ولا مرغوبًا عن الرواية عنه، فيُستدل بذلك على صحته فيما يروي عنه.
ويكون إذا شَرِكَ أحدًا من الحفاظ في حديثه، لم يخالفه. فإنْ خالفه ووُجد حديثه أنقص، كانت في هذه دلائل على صحة مَخْرَج حديثه.
ومتى خالف ما وصفتُ، أضَر بحديثه، حتى لا يَسَع أحدًا منهم قبولُ مراسيله.
وإذا وُجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفتُ، أحببنا أنْ نَقبل مرسلَه، ولا نستطيع أن نزعم أنَّ الحجة تثبت بها ثبوتها بالمتصل؛ وذلك أنَّ معنى المنقطع مُغَيَّب، يحتمل أنْ يكون حُمِلَ عمن يُرغَب عن الرواية عنه إذا سُمي، وأنَّ بعض المنقطعات -وإنْ وافقه مرسَلٌ مِثله- فَقدْ يحتمل أنْ يكون مخرجهما واحدًا مِن حيث لو سُمي لم يُقبل، وأنَّ قول بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال برأيه [أو] (¬2) وافقه، لم تصح على مخرج الحديث دلالة قوية إذا نُظر فيها.
¬__________
(¬1) كذا في (ت، ق، ظ)، لكن في (ص، ش): يقوى.
(¬2) كذا في جميع النُّسخ. لكن في "الرسالة، ص 464": لو.
ص:
523 - كَـ "لِتَصُمْ "وَ"صَلِّ"، وَ"النَّهْيُ": طَلَبْ ... كَفٍّ بِغَيْرِ نَحْوِ "كُفَّ" يُجْتَنَبْ
الشرح:
قولي: (كَـ "لِتَصُمْ" وَ"صَلِّ") مثالان للأمر كما أوضحناه.
وقولي: ([وَ "النَّهْيُ"]) (¬1) إلى آخِره -تعريف للنهي بعد بيان تعريف الأمر.
والنهي وزنه "فَعْل"، وجمعه "نواهي"، وفيه الإشكال السابق في "أمر"، وهو أن القياس في جمعه "أَفْعُل" لا "فواعل" سواء أكان صحيحًا أو معتلًّا بالواو أو بالياء، كَـ"أَكْلُب" جمع كلب، وأدل جمع دلو، وأظب جمع ظبي، وأصل هذين أدلو وأظبي، فقلبوا الضمة كسرة والواو ياء؛ فصار منقوصًا كقاضٍ وغازٍ.
ويجاب عنه بما سبق من كونه جمع "ناهية"؛ لأن الصيغة ناهية.
ولا يجاب هنا بما سبق في "أوامر" أنه جمع الجمع؛ لأن النون "فاء" الكلمة، فينبغي أن يقال: إنهم إنما قالوا: "أوامر" و"نواهٍ" للمجانسة، كما قالوا: غدايا وعشايا، فإن الغدوة لا تجمع على فعائل، بل لمجانسة عشايا قالوا: غدايا.
هذا ما يتعلق بلفظ النهي، وأما تعريفه فكل ما سبق في "الأمر" يأتي فيه سوى أنه متعلق بالترك لا بالفعل، وحينئذٍ فيكون الأحسن في تعريفه ما ذكرته في النظم وهو أنه: طلب كَف بغير نحو "كُف".
فالطلب: جنس، وبإضافته للكف المذكور خرج الأمر.
¬__________
(¬1) في (ق، ت): طلب.
والعبدُ بالقياسِ عليها.
أمَّا الأَمَة فبقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].
وأمَّا العبد فلأنه رقيق فَعَل ما يوجب الحد، فكان على النصف مِن الحر؛ قياسًا على الأَمَة؛ بجامع ما بينهما مِن نقص الرق المقتضِي للتنصيف. فصار بعض الآية مخصَّصًا بالنص وبعضها بالقياس الذي هو مقصود التمثيل.
وهو معنى قولي: (كَالنِّصْفِ في حَدِّ الزِّنَا لِلْعَبْدِ). أي: كالحكم في حد العبد في الزنا، فإنه على النصف من الحر.
وقولي: (كَأَمَةٍ) أي: كما أنَّ الأَمة على النصف من الحرة، إلا أن الأَمة بالنص. فقد وقع التخصيص بالأَمة والعبد للعموم في "الزانية" و"الزاني" الواقعين في الآية، لكن الأول بالنص، والثاني بالقياس.
ومن التخصيص بالقياس أيضًا قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] إلى قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة: 58]، ففيه عموم جواز الأكل مِن ذلك مطلقًا، لكن خُص من ذلك ما كان في جزاء الصيد، فإنه يحرم الأكل منه بالإجماع.
ويقاس على ذلك الأكل مِن هدي المتعة والقران، فيصير أيضًا بعض الآية مخصَّصًا بالإجماع والبعض بالقياس على المجمَع عليه.
ذكره؛ ولهذا قال أبو زيد: (الإلهام ما حرك القلب بعلم يدعوك إلى العمل به مِن غير استدلال بآية ولا نَظَر في حُجة).
أما التعريف المذكور في النَّظم فهو ما ذكره ابن السبكي في "جمع الجوامع"، وهو أوضح في المعنى، فقال: ("الإلهام" إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر).
و"إيقاع شيء في القلب" جنس يشمل الإلهام وغيره.
و"يثلج له الصدر" أي: ينشرح ويطمئن، فَصْل يُخرج ما عداه.
و"يثلج " بالثاء المثلثة والجيم واللام مضمومة مضارع "ثلج" بالفتح، أو مفتوحة مضارع "ثلج" بالكسر. على ما نقله أبو عمرو.
والأول أشهر، وهو معنى قولي: (لَهُ اطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ).
نعم، تَعرَّض بعض أصحابنا في الفقه لذلك، فذكره الماوردي والروياني في كتاب "أدب القضاء"، لكن عبارة الماوردي: (أبطل قوم وجوب النظر، وعوَّلوا على الإلهام).
وأما الروياني فنقل الاحتجاج به عن بعض السلف.
قيل: ولا يُعْرف ذلك في كلام السلف.
قال أبو زيد: (الذي عليه جمهور العلماء أنه خيال لا يجوز العمل به إلا عند فقد الحجج كلها في باب ما أُبيح عمله بغير عِلم. وقال بعض الجبرية: إنه حجة، بمنزلة الوحي المسموع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واحتج بقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] أي: عرَّفها بالإيقاع في القلب. وبقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] الآية، وشَرْح الصدر بنور العِلم، وضيقه بِظُلْمة الجهل. وقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، أخبر بأنهم خُلقوا على الدِّين الحنيفي بلا صنيع منهم. وقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، أي: ألهمها؛

الصفحة 181