كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

وفي "المنخول" للغزالي أنه لا يُسَمَّى "مستحيلًا" أَصْلًا؛ لأنه في ذاته جائز الوقوع، فلا تتغَيَّر حقيقته بالعِلْم، فانظر ما بَيْن هذين القولين مِن التباعد.
ودليل وقوعه أنَّ الله تعالى كَلَّف الكفار بالإيمان قَطْعًا - مع عِلْمه تعالى بأنَّ بَعْضهم لا يؤمِن، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
ومما هو واقِعٌ قَطْعًا: ما استحالتُه لِعَدَم القُدرة عليه حال التكليف مَعَ كَوْنه مقدورًا حالة الامتثال إذَا قُلنا بأنه مُتَعَلِّق قَبْل المباشرة - كما سبق - وقُلْنَا: (إنَّ القُدرة مع الفعل) كما يقوله الأشعري، فالتكاليف كلها - على رأيه - مِن التكليف بالمُحَال.
وإنما قال: (إنَّ القُدرة مع الفعل) لأنَّ القُدرة صفة متعَلِّقة بالمقدور، ووجود المُتَعَلِّق بدُونَ المُتَعَلَّق مُحَال. وأيضًا فَقُدْرة العَبْد عَرَض، والعَرَض لا يَبْقَى زَمانَيْن، فلو تَقَدَّمت القُدْرَة لَعُدِمَتْ عند الحدوث.
وضعَّفَ كثيرٌ ذلك، ورَدُّوا هذين الوَجْهَيْن:
الأول: بأنَّ التعلق لا يقتضي وجودًا إذَا كان بالقوة، وإنما يقتضيه إذَا كان بالفعل.
والثاني: بأنه إذَا ذَهَبَ، خَلَفَهُ مِثْلُه؛ فلا يَنْفَكُّ.
فِلأَجْل ذلك لَمْ أَجْعَل هذا قِسْمًا آخَر مِن المستحيل.
وأمَّا الثاني (وهو المُحَالُ العادِي وَإنْ كان مُمْكِنًا في ذاته، كَحَمْل الآدَمِي الجبَلَ وطيرانه وعَدْو المُقَيَّد ومَشْي الزَّمِن ونحوها مما فيه مانع يُمْكِن زوالُه عَقْلًا) والثالث (وهو المُحَال لِذَاته، كَجَمْع الضِّدَّيْن) فَهُمَا مَحَلُّ الخِلَاف.
والأصح فيهما عند الجمهور الجوازُ مُطْلَقًا، ونُقِلَ عن الأشعري؛ لأنه قضيَّة مَذْهَبه كما سبق، ولقوله تعالى: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286]. ولو كان مُحَالًا لَمَا استقام سؤالُ دَفْعِه.
ويمكن أنه يكون إنما غلط فيه حين سمع بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحصل مِثل هذا فيمن [يوافقه عن بعض الفقهاء من بعض الفقهاء]) (¬1) (¬2).
قال الشافعي: (فأما مَن بَعْد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا أعلم واحدًا منهم يُقبل مرسلُه؛ لأمور:
أحدها: أنهم أشد تَجوُّزًا فيمن يروون عنه.
والآخر: أنهم تُؤخَذ عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه.
والآخر: كثرة الإحالة في الأخبار، وإذا كثرت الإحالة في الأخبار كان أمكن للوهم وضعف من يُقبل عنه) (¬3). انتهى
وممن روى كلام الشافعي هذا: أبو بكر الخطيب في "الكفاية"، وأبو بكر البيهقي في "الدخل" بإسنادهما الصحيح إليه.
فقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أخبرنا الربيع بن سليمان.
وقال الخطيب: (أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله الكاتب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر ابن محمد بن سلم، قال: أنا أحمد بن موسى الجوهري، ح. وأخبرنا محمد بن عبد العزيز الهمداني، قال: أخبرنا صالح بن أحمد الحافظ، قال: أخبرنا محمد بن حمدان الطرائفي، قالا: أخبرنا الربيع بن سليمان، قال: قال الشافعي: المنقطع مختلف ... ) (¬4) إلى آخِره.
¬__________
(¬1) كذا في جميع النُّسخ. لكن العبارة في "الرسالة، ص 465": فيمن وافقه من بعض الفقهاء.
(¬2) الرسالة (ص 461 - 464).
(¬3) الرسالة (ص 465).
(¬4) الكفاية (ص 405).
والمراد بِـ "غير نحو كُف": أن يكون بصيغة "لا تفعل"، نحو: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108]، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام: 151]، {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11]، "لا يبع بعضكم على بيع بعض" (¬1)، وشبه ذلك.
أما إذا كان بصيغة نحو: "كُف" و"أَمْسِك" و"دع"، و"لِتكف" و"لتمسك" و"لتدع" وما أَشبه ذلك، فإنه أَمْرٌ كما سبق تقريره.
نعم، في كلام ابن فورك أنه يسمى نهيًا، فإنه قال: (صيغة النهي عندنا: "لا تفعل"، و"انته"، و"اكفف"، ونحوه). انتهى
فإنْ أراد أنه في معنى النهي في الجملة فواضح، وإنْ أراد حقيقةً فمخالف لكلام أهل العربية والأصول وغيرهم، وإذا جرينا على قول ابن فورك، لم نحتج في حد "الأمر" أن نقول: (مدلول عليه بغير "كُف")، ولا في حد النهي أن نقول: (بغير نحو "كُف"). والله أعلم.
ص:
524 - كَـ "لَا تَبِعْ"، وَلَيْسَ الِاسْتِعْلَاءُ ... شَرْطًا، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَلَاءُ
الشرح:
وقولي: (كَـ "لَا تَبعْ") هو مثال للنهي، كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تبع ما ليس عندك" (¬2).
ونحو ذلك مما سبق من الأمثلة.
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 2043)، صحيح مسلم (رقم: 1412).
(¬2) سبق تخريجه.
تنبيهان
أحدهما: ذكر الشيخ أبو حامد أن مَن منع تخصيص العموم بالقياس قد يتعلق بقول الشافعي في "باب أحكام القرآن" من "الأُم": (إنما القياس الجائز أن يشبه ما لم يأت فيه حديث بما فيه حديث لازم، فأمَّا أنْ يَعْمد إلى حديث عام فيحمل على القياس، فأين القياس في هذا؟ ) (¬1) [إلى آخِر ما قاله] (¬2).
قال: فقد ذكر الشافعي أن القياس لا يُعمل به في الحديث العام، وإنما يُعمل به في أن يبتدئ به الحكم في موضع لا يكون فيه حديث ويُقاس على موضع فيه حديث؛ فدَلَّ أنَّ مذهبه منع التخصيص بالقياس.
ثم رد ذلك الشيخ أبو حامد بأن الشافعي في "الأُم" ذكر قول الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
واحتمل أمره تعالى بالإشهاد أن يكون على سبيل الوجوب كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" (¬3)، واحتمل أن يكون على الندب كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282].
قال الشافعي: فلما جمع الله تعالى بين الطلاق وبين الرجعة وأمر بالإشهاد فيهما ثم كان
¬__________
(¬1) الأم (5/ 169).
(¬2) كذا في (ص، ق، ش). لكن في (ت، ض): الاخبار.
(¬3) صحيح ابن حبان (رقم: 4075)، سنن الدارقطني (3/ 221)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 20313)، وغيرها. قال الألباني في (التعليقات الحسان: 4075): حسن صحيح. وقال في (إرواء الغليل: 1860): صحيح؛ لشواهده.
فالآدمي أَوْلى. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] أي: ألهمناها.
وقال عليه السلام: "كل مولود يولد على الفطرة" (¬1). وقال: "اتقوا فراسة المؤمن" (¬2). والفراسة شيء يقع في القلب بلا نظر في حجة. وقال عليه السلام لوابصة وقد سأله عن البر والإثم: "ضع يدك على صدرك، فما حاك في قلبك فَدَعْه وإنْ أفتاك الناس وأفتوك" (¬3)، وقال: "كان في الأمم محدثون، فإنْ يَكُن في هذه الأُمة منهم أَحَد فهو عُمَر" (¬4).
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 1319)، وفي صحيح مسلم (رقم: 2568) بلفظ: (ما من مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ على الْفِطْرَةِ).
(¬2) سنن الترمذي (رقم: 3127)، المعجم الكبير للطبراني (7497)، وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 3127).
(¬3) لم أجده بهذا اللفظ، لكن نحوه في: مسند الإمام أحمد بن حنبل (رقم: 18035)، مسند أبي يعلى (1586)، وغيرهما، ولفظ أحمد: (يا وابصة، استفت قلبك واستفت نفسك - ثلاث مرات، البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس وتَردد في الصدر وإنْ أفتاك الناس وأفتوك).
ومداره على الزبير أبي عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله. ويظهر لي -الآن- ثلاث عِلَل:
الأُولى. قال الإمام الدولابي (224 - 310 هـ) في (الكنى والأسماء، 2/ 871): (أبو عبد السلام الزبير .. ضعيف).
الثانية: قال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب، ص 118): (أيوب بن عبد الله بن مكرز .. مستور).
الثالثة: جاء في إسناد الإمام أحمد: (الزبير أبو عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله بن مكرز ولم يسمعه منه، قال: حدثني جلساؤه ... ).
قلتُ: فالعلة الثالثة جهالة الواسطة بينهما.
(¬4) صحيح البخاري (3282)، صحيح مسلم (2398).

الصفحة 182