كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

والثاني: المنع مُطْلَقًا، وهو قول أكثر المعتزلة، واختاره ابن الحاجب والأصفهاني في شرح "المحصول"، ونقل عن صاحب "التلخيص" حكايته عن نَصِّ الشافعي، وإليه ذهب الشيخ أبو حامد وإمامُ الحرمين.
والثالث: الامتناع في المُحَال لِذَاته، والجواز في المُحَال للعادة، وإليه ذهب معتزلة بغداد، واختاره الآمدي، وصَرَّح به الغزالي في "المستصفى"، واختاره أيضًا الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في "شرح العنوان". فَمَن نَقَل عنه أو عن الغزالي أنهما مَنَعَا مُطْلَقًا، ليس بِمُصِيب.
نَعَم، مَن وافق المعتزلة مِن أهل السُّنة فَلَيْسَ لِمُدْركهم العقلي، بل لدليلٍ آخَر.
وقولي: (كَحَمْلِهِ لِجَبَلٍ مَا اعْتَادَهْ) أَيْ: تكليف الآدمي ذلك بِخِلَاف ما لو كُلِّف الجِنِّيُّ مَثَلًا بذلك.
وقولي: (لَكِنْ نُبِذَا) إلى آخِره - إشارة إلى ما سَبَق مِن الوقوع في القسم الأول وعَدَم الوقوع في القِسمين الآخَرين ولو قُلْنَا بالجواز فيهما.
وقولي: (وَالسِّرُّ الِابْتِلَاءُ) أَيْ: السِرُّ في التكليف بالمُحَال مُطْلَقًا - حيث حَكَمْنَا بجوازه وبوقوعه - الابتلاء والاختبار، والله أعلم.
ص:
94 - وَبِالْمُكَلَّفِ أُرِيدَ الْعَاقِلُ ... الْبَالِغُ الذَّاكِرُ، فَهْوَ [الْكَامِلُ] (¬1)
الشرح: لَمَّا سَبَقَ في تَعْرِيفِ الْحُكْمِ أنه المتعلِّق بِفِعل المكَلَّف، احْتِيجَ إلى شَرْحه وما
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ز، ق، ن 2) ويوافق الشرح. وفي (ض، ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): كامل. والوزن صحيح في الحالتين.
ففيه ذكر الشروط الثلاثة السابقة.
ولا يُقال: إنَّ قوله: (ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى مَن روى عنه لم يُسم مجهولًا) إنما هو من العواضد كما زعمه الإمام في "المحصول" وأتباعه حتى لا يكون شرطًا في كل مرسَل.
لأنَّا نقول: لو أراد ذلك لقال: (وكذلك أن يكون إذا سمى) إلى آخِره، أو نحو ذلك، فعدوله إلى قوله: (ثم يعتبر) إلى آخِره - كالصريح في اعتباره في المرسل من حيث هو، والمعنى في اشتراطه مطلقًا واضح؛ ولهذا عطف عليه قوله: (ويكون إذا شرك أحدًا من الحفاظ)؛ فإثه لا يصح أن يُجعل من المقويات، بل اشتراط أنَّ المرسَل إذا رُوي معناه من وجهٍ آخَر أنْ يكون مساويًا لِمَا رواه الثقات في المعنى، وهو معنى قوله أولًا: فأسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما رَوى. فإنْ خالفهم، اشترط أنْ تكون نحالفتهم له بالنقصان في المعنى.
فإن قيل: ففي "مختصر المزني" في حديث: "إذا كان الماء قُلتين، لم يحمل نجسًا" (¬1) أو قال: "خبثًا" (¬2). أخرجه الشافعي بسنده، ثم قال: إنَّ ابن جريج روى بإسناد -لم يحضر الشافعي ذلك- بزيادة: "بِقلال هجر" (¬3). وكذا قال في "الأم" و"المسند".
وقال ابن الأثير والرافعي في شرحيهما للمسند: إن الإسناد الذي لم يحضر الشافعي كما
¬__________
(¬1) مسند الشافعي (ص 7)، سنن أبي داود (رقم: 63) بلفظ: (إذا كان الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، لم يَحْمِل الْخَبَثَ). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 63).
(¬2) مسند الشافعي (ص 7) بلفظ: (إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا أَوْ خَبَثًا).
(¬3) مختصر المزني (ص 9).
ذكر الحافظ ابن حجر إسناده في كتابه (التلخيص، 1/ 18)، وفي إسناده محمد بن يحيى، قال الحافظ ابن حجر: مجهول الحال.
وقولي: (وَلَيْسَ الِاسْتِعْلَاءُ) إلى آخِره -المراد به أنه لا يشترط في الأمر والنهي لا استعلاء ولا عُلُو على أرجح المذاهب، ونقله في "المحصول" عن أصحابنا.
والمراد بِـ "العُلُو" أن يكون الآمِر في نفسه عاليًا، أيْ أعلى درجة من المأمور، و"الاستعلاء" أنْ يجعل الآمِر نفسه عاليًا بكبرياء أو غير ذلك، سواء أكان في نفس الأمر كذلك أو لا، فالعلو من الصفات العارضة للآمِر، والاستعلاء من صفة صيغة الأمر وهيئة نُطقه مثلًا.
والمذهب الثاني: أنهما يعتبران في الأمر والنهي. وبه جزم ابن القشيري والقاضي عبد الوهاب.
والثالث: يعتبر العلو، لا الاستعلاء. وهو قول المعتزلة، ووافقهم من أصحابنا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وحكاه عن أصحابنا وابن السمعاني، واختاره القاضي أبو الطيب الطبري والقاضي عبد الوهاب في "الملخص" ونقله عن أهل اللغة وسليم وأبو بكر الرازيان وابن عقيل الحنبلي وأبو الفضل بن عبدان من أصحابنا في "شرائط الأحكام".
قالوا: فإنْ كان مساويًا فهو التماس، أو دُونه فسؤال.
الرابع: يعتبر الاستعلاء، دون العلو. وهو قول أبي الحسين من المعتزلة، وصححه الإمام والآمدي وابن الحاجب وابن برهان في "الأوسط".
ويفسد كلاًّ من القولين -العلو والاستعلاء كما قاله البيضاوي- قولُه تعالى حكايةً عن قول فرعون لقومه في مجلس المشاورة: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35]، ومعلوم انتفاء العلو؛ لأن فرعون أعلَى رتبة منهم، وانتفاء الاستعلاء؛ لأنهم لا يستعلون عليه.
ولكن فيه نظر؛ لأنه ليس الأمر في الآية بمعنى القول المخصوص، وإنما المراد: ماذا تشيرون به عَلَيَّ؟
الإشهاد على الطلاق غير واجب، كان الإشهاد على الرجعة كذلك (¬1).
قال الشيخ أبو حامد: (فقد قاس الشافعي الإشهاد على الرجعة على الإشهاد على الطلاق وخَص به ظاهر الأمر بالإشهاد؛ إذْ ظاهر الأمر الوجوب). انتهى
وكأنَّ الشيخ أبا حامد أخذ مِن عدول الشافعي عن ظاهر الأمر للوجوب في شيء قياسًا على آخَر أنه يعدل بالقياس عن ظاهر العموم إلى الخصوص.
ثم أجاب الشيخ أبو حامد عن النص السابق بأن الشافعي إنما قصد فيه أنه لا يجوز ترك الظاهر بالقياس، وذلك أنه ذكر هذا في مسألة النكاح بلا ولي، فروى حديث: "أيما امرأة نكحت" ثم حكى عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا: العلة في طلب الولي أنه يطلب الحظ للمنكوحة ويضعها في كفء، فإذا تولت هي ذلك، لم يحتج إلى الولي.
فقال الشافعي: (هذا القياس غير جائز؛ لأنه يعمد إلى ظاهر الحديث ونَصه فيسقطه؛ لأن ما ذكروه يُفضي إلى سقوط اعتبار الولي، وذلك يُسقِط نَص الخبر. فاستعمال القياس هنا لا يجوز، وإنما يجوز حيث يخص العموم). انتهى بمعناه.
وحاصله أنه يعود إلى أن الاستنباط من النص بما يعود عليه بالتخصيص سائغ، بخلاف ما إذا عاد عليه بالإبطال، لا أنَّ مُراد الشافعي تخصيص العموم بالقياس، فإنَّ ذلك لا يُبطل العموم.
وقد سبق عن الشيخ أبي إسحاق أن الشافعي خصص بالقياس في مواضع.
الثاني:
المراد بالقياس الذي يُخص به: أن يكون قياسًا على منصوص بِنص خاص كما قاله
¬__________
(¬1) انظر: الأم (7/ 84).
وعن أبي بكر: "أُلْقِي في روعي أن ذا بطن بنت خارجة جارية" (¬1). والإلقاء هو الإلهام).
وأطال في ذلك، قال: (فثبت أنَّ الإلهام حقٌّ، وأنه وحي باطن، إلا أنَّ العبد إذا عصى ربه وعمل بهواه، حُرِم هذه الكرامة، واستولى عليه وحي الشيطان.
وأما حُجة أهل السنة والجماعة في منع حجيته فقوله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111]، فألزمهم الكذب بعجزهم عن إظهار الحجة، وأنَّ الحجة الباطنة لا أثَر لها.
وكذا: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] فإنه صريح أن شهادة قلوبهم لا تنهض حُجة، وأن الحجة هي ما يمكن إظهاره من الدلائل الشرعية كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] (¬2).
أي: لا يُعمل إلا بالدليل الظاهر.
قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ} [الغاشية: 17]، {أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]، إلى غير ذلك من الأمر بالاستدلال، ولم يأمر بالرجوع إلى القلب.
وفي السُّنة قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "بم تحكم؟ " (¬3) الحديث، لم يذكر له إلهام القلب.
¬__________
(¬1) مصنف عبد الرزاق (16507) بنحوه، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 11728). قال الحافظ ابن الملقن في (البدر المنير، 7/ 143): (هذا الأثر صحيح).
(¬2) تقويم الأدلة (ص 393 - 394).
(¬3) سنن أبي داود (رقم: 3592) بلفظ: (كَيْفَ تَقْضِي؟ )، سنن الترمذي (رقم: 1327). قال الألباني: =

الصفحة 183