كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

وتحريرات، وتقريرات، ونقولات، ومناقشات، وتطبيقات فقهية" لَمْ يتعرض لها الإمام الزركشي في كِتابَيْه المذكورَين.
وأكتفي بِذِكْر خمسة أمثلة توضح ذلك:
المثال الأول: إذَا قرأ القارئ مبحث "الاستقراء" مِن باب "الأدلة المختَلَف فيها" في "البحر المحيط" للزركشي ثم قرأه في شرح الألفية للبرماوي، فسيجد في شرح البرماوي (مِن الأدلة والمناقشات والتطبيقات والفوائد والتنبيهات) ما لن يجده في "البحر المحيط" أو في "تشنيف المسامع بجمع الجوامع".
المثال الثاني: ذكر البرماوي كلامًا للسبكي مِن "جمع الجوامع"، ثم قال (2/ 851): (وتَوقَّف كثير مِن العَصريين في مراد المصنِّف بذلك، حتى إنَّ شيخنا بدر الدين الزركشي - رحمه الله تعالى - لم يتعرض لشرح ذلك، بل بَيَّضَ له. وقد ألهمني الله - سبحانه وتعالى - مقصوده بذلك مِن كلامه في "شرح المختصر"، فإنه ... ). انتهى
ثم نقل كلام السبكي من كتابه (رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب)، ثم قال البرماوي: (وفيما قاله نَظَر مِن وجوه: الأول ... ثانيها ... ثالثها ... سادسها ... ).
قلتُ: فاشتمل شرح البرماوي على مناقشات وتعقبات وتحريرات وغير ذلك مما لا تَخفَى فوائده.
المثال الثالث: قال البرماوي في شرح الألفية (3/ 1231): (وتَرِد صيغة النهي مجازًا لهذه المعاني: أحدها ... ، الثامن: التسوية، ولم أر مَن ذكره، وهو أَوْلى بالذكر من كثير مما ذكروه، ويمثَّل له بقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16]؛ لأن المراد التسوية في الأمرين).
المثال الرابع: قال البرماوي في شرح الألفية (4/ 1600): (لكن فيما قالوه نظر من
قال الرافعي: (وهو أشبه بكلام الشافعي) ((¬1).
ولكن الذي اختاره الشيخ أبو حامد والشيخ أبو إسحاق وأبو حاتم القزويني أنَّ أَقَل ما تثبت به الاستفاضة اثنان، وإليه ميل إمام الحرمين.
وقولي: (إنْ شَاعَ عَنْ أَصْلٍ) هذا متضمن لتعريف هذا النوع وهو "المشهور" بأنه: الشائع عن أصل. أي: الشائع بين الناس لكن بشرط أن يكون عن أصل؛ فخرج ما شاع لا عن أصلٍ يُرجَع إليه، فإنه مقطوع بكذبه.
وقولي: (والْمَذْكُورُ أَقَلُّهُ اثْنَانِ) أي: هذا الذي يسمى "المشهور" و"المستفيض" أقله اثنان، وقيل: عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب. وقد سبق تقرير القولين وتعيين قائلهما.
وقال الآمدي: (هو ما نقله جماعة تزيد على الثلاثة والأربعة) (¬2).
وقيل: المستفيض ما تلقته الأُمة بالقبول. وعن الأستاذ أنه ما اشتهر عن أئمة الحديث. فلتضم هذه الأقوال إلى ما سبق.

تنبيه:
قد عُلم من دخوله - على المرجَّح - تحت الآحاد أنه يفيد الظن كما سيأتي، لكن الظن فيه أوكد من غيره. ومَن سَوَّى بينه وبين "المتواتر" أو قال: إنه أعلى منه، فهو مفيد عنده القطع، وكذا مَن يشترط استحالة الكذب في رواته، والله أعلم.
وقولي: (وَقَوْلُ الْوَاحِدِ) إلى آخِره وبعده:
¬__________
(¬1) العزيز شرح الوجيز (13/ 69).
(¬2) الإحكام للآمدي (2/ 48).
بذلك عن كونه صفةً إلَّا صناعة فقط، فيتحد على هذا مفهوم التركيبين معًا كما أبداه ابن السبكي احتمالًا لأبيه وإنْ رَجَّح هو خِلافَهُ وزعم أنَّه التحقيق كما سبق.
فَعَلَى هذا: مفهوم"في سائمة الغنم الزكاة" أنْ لا زكاة في معلوفة الغنم - من مفهوم الصفة، لا اللقب؛ لأن "اللقب" - كما سيأتي - أنْ يُرتب فيه الحكم على محكوم عليه جامد، وهذا مشتق، ولكنه لَمَّا كان الوصف مضافًا، لُوحِظَت الإضافة فيه تتميمًا، فيخرج منه سائمة نحو البقر، لا بلفظ "الغنم"، بل بإضافة "السائمة"، فيُدَّعَى خروج الأمرين معشًا، وأنهما مِن مفهوم الصفة.
وقد تَعرَّض أَبو عُبيد في "مَطْل الغَني ظُلم" للثاني (لِخَفَائه) دُون الأول (لِوضُوحه)، فاعْلَمه.
وسيأتي في هذا التركيب مباحث أُخرى في التنبيهات الآتية.
وبالجملة ففي كون مفهوم الصفة حُجةً معمولًا بها مذاهب:
أحدها: نعم، وبه قال الشَّافعي ومالك وأحمد وأَبو عُبيدة معمر بن المثنى فيما حكاه القاضي في "التقريب" وإمام الحرمين وغيرهما، ونقله الآمدي وابن الحاجب وابن السمعاني عن أبي عُبيد والفقهاء والمتكلمين، ونقله ابن الحاجب عن إمام الحرمين، وحكاه سليم الرازي عن اختيار المزني والإصْطَخْري وأبي إسحاق المروزي وابن خيران وأبي ثور وداود الظاهري، ومنهم مَن يَنقل عنه أنَّه إنما يقول بمفهوم الموافقة، لا المخالفة، فالنقل عنه مضطرب، وهو منصوص الشَّافعي في كتاب "أحكام القرآن"، وبه أيضًا قال الصيرفي ونقله عن نَص الشَّافعي، إذْ قال: (ومعقول في لسان العرب أن الشيء إذا كان له وصفان فوُصف بأحدهما، أن ما لم يكن بتلك الصفة بخلافه). انتهى
وكذا حكاه ابن القطان عن نَصه في "كتاب الزكاة"، وحكاه القاضي عن نَص الأشعري في إثبات خبر الواحد، فقال: قال الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:
وقيل: تحِل كل واحدة على الانفراد، ولا تُجمع.
وقيل: يجوز الجمع. قال الماوردي: وهو الظاهر من كلام الشافعي.
وأما إذا كان التخصيص بمُعيَّن فحُجة؛ لأن الصحابة لم تَزَل تستدل بالعمومات مع دخول التخصيص فيها.
قيل: ولأنه لو لم يُحتج به في الباقي لكان متوقفًا على دلالته على الأفراد المُخْرَجَة. فإنْ كانت تلك لا تتوقف على هذا فتَحَكُّم، أو توقفت فَدَوْر.
ولكن هذا مردود بأن هذا مِن الدور المَعِي وليس بِمُحَال، إنما المُحَال الدَّوْر السبقي.
وهذا القول بالتفصيل المذكور هو قول معظم الفقهاء، واختاره الإمام الرازي والآمدي وابن الحاجب. وقال ابن القطان من أصحابنا: إنه الأصح. وقال ابن الصباغ: إنه قول أصحابنا.
وبه قال إلْكِيَا، قال: لكنه دُون ما لم يتطرق التخصيص إليه يُكْسبه ضربًا من التجوز. ولمثْلِه رجح نهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير على عموم قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية -بأن التخصيص تَطَرَّق إليها، فإنَّ الخمر والقاذورات المحرَّمة خارجة منها.
وقال أبو زيد الدبوسي أنه الذي صح عنده من مذهب السلف، قال: (لكنه غير موجِب للعِلم قطعًا، بخلاف ما قَبْل التخصيص) (¬1).
المذهب الثاني: أنه حُجة مطلقًا في المخصوص بمعيَّن وبمبهم. وسبق القائل به وتقريره.
¬__________
(¬1) عبارته في تقويم الأدلة (ص 105): (غير موجب للعلم قطعا كما قال الشافعي قبل الخصوص).
تنبيهات
الأول: هذا المذكور في الأقسام الثلاثة إنما هو في المناسب الدنيوي، أما الأخروي فكتزكية النفس ورياضتها وتهذيب الأخلاق المؤدي إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي المتوصَّل بذلك إلى رضَا الرب عز وجل.
وربما كان متعلقًا بالدارين، كإيجاب الكفارات، فإنها يحصل بها الزجر عن تَعاطي تلك الأفعال التي أوجبت التكفير، ووسيلة إلى تكفير الذنوب التي قد حصلت بفعلها.
الثاني: مِن الأمور ما يظهر رَدُّه إلى نوع مِن الأنواع المذكورة، كوجوب القصاص بالمثقل، فإنَّ ردَّه إلى الضروريات ظاهر؛ وذلك لما فيه من حفظ النفوس، وإلا لَبَادَرَ الناس إلى القتل به، بل هو أَيْسَر مِن المحدد؛ لِغَلَبَةِ وجوده.
ومنها ما يظهر أنه ليس منه، كغرز الإبرة في غير مقتل بلا ألم ولا ورم، وكإبانة فلقة من اللحم خفيفة، فيظهر أن لا يُعَلَّل به وجوب قصاص؛ إذ ليس هو من رعاية المصالح الضرورية؛ لأنه لا يُفْضِي للهلاك إلا نادرًا.
ومنها ما يحتمل أنه منه وأن لا يكون منه، كإيجاب القصاص على الجماعة بقتل الواحد، فإنه يحتمل أن يكون من الضروري؛ لئلَّا يؤدي إلى أنَّ مَن يريد قَتْل شخص، لا ينفرد به، بل يستعين بمن يشاركه. ويحتمل أن لا يكون منه؛ لاحتمال أنْ لا يوافقه مَن يريد مشاركته.
وجمن هنا تعرف مدارك الفقه في هذه الصوَر.
الثالث: هذا كله إذا كان الوصف المناسب حقيقيًّا، لكنه قد يكون إقناعيًّا، وهو ما يظن مناسبته في بادئ الرأْي، وعندما يُبحث فيه حَق البحث يظهر خلاف ذلك، كتعليل بعض الأصحاب تحريم بيع الخمر والميتة بنجاستهما، وقياس الكلب والسرجين عليهما.

الصفحة 39