كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

فظهر بذلك أنَّ صنيع الدكتور قد اشتمل على خَلَل في عدة مواضع، منها أنه أدخل كلمة "الثاني" في قول البائع، بينما هي بداية فقرة جديدة خاصة بِـ: التنبيه الثاني.

ملاحظاتي على التحقيق الثاني
ذكرتُ فيما سبق أن كتاب "الفوائد السنية" حُقِّق في تِسْع رسائل ماجستير بجامعة الأزهر، مُقَسَّمة على تِسع طالبات بالدراسات العليا بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات، ولم يُطْبَع.
وهي مُقَسَّمة كما يلي:
الرسالة الأُولى: عام 2004 م، وقد تناولت مقدمة الكتاب، وهي من البيت رقم (1) إلى البيت رقم (199).
الرسالة الثانية: عام 2002 م، وقد تناولت الباب الأول، وهو من البيت (200) إلى البيت (256).
الرسالة الثالثة: عام 2002 م، وقد تناولت النوع الأول من الباب الثاني، من البيت (257) إلى (368).
الرسالة الرابعة: عام 2000 م، وقد تناولت النوع الثاني من الباب الثاني، من البيت (369) إلى (521).
الرسالة الخامسة: عام 2003 م، وقد تناولت الأبيات من رقم (522) إلى (612).
الرسالة السادسة: عام 2002 م، وقد تناولت الأبيات من رقم (613) إلى (675).
الرسالة السابعة: عام 2003 م، وقد تناولت الأبيات من رقم (676) إلى (762).
المكفر) (¬1).
ومقتضاه أن ذلك باتفاق، سواء أكان يعتقد حرمة الكذب أو لا.
لكن معتقِد حُرمة الكذب مع الحكم بتكفيره ببدعته (كالقول بنبوة علي، وغَلَطِ جبريل في الرسالة، وكالمجسِّمة عند مَن يكفرهم، ونحو ذلك) فيه مذهبان مشهوران:
قال الأكثرون (منهم القاضي والغزالي والآمدي وغيرهم): لا يُقبل.
وقال أبو الحسين البصري والإمام الرازي وأتباعه: يُقبل.
فإنْ كان مكفَّرًا ببدعته ولكن هو ممن يعتقد جواز الكذب تعبدًا، مردود اتفاقًا.
قال ابن السبكي في شرحَي "المختصر" و"المنهاج": (أرى أن موضع الاتفاق فيمن اعتقد الحِل مطلقًا؛ لأنها رذيلة لا نَعلم أحدًا ذهب إليها. أما من اعتقد حِله في أمر خاص كالكذب في نُصرة عقيدته أو في ترغيب وترهيب أو نحو ذلك، فَيُرد في ذلك المحل الخاص) (¬2).
وهو فيما سوى ذلك المحل كغيْره في جريان الخلاف.
وخرج من ذلك:
قولٌ ثان: إنَّ المبتدع مقبول ولو كان كافرًا بشرط أن يعتقد تحريم الكذب.
وقولٌ ثالث بالرد فيما يعتقد حِل الكذب فيه دُون غيره.
القول الرابع: أن المبتدع مردود مطلقًا وإنْ لم يكفر ببدعته. وبه قال القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق في "اللمع".
¬__________
(¬1) مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 549).
(¬2) الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 314)، رفع الحاجب (2/ 363).
وحكى ابن حمدان وأبو يعلى من الحنابلة قولًا رابعًا: وهو التفصيل بين أن تدل قرينة فيكون حُجة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "جُعلت لي الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا" (¬1)، إذْ قرينة الامتنان تدل على الحصر فيه، أوْ لا فلا.
وقريب من هذا قول الغزالي في "المنخول": (إنه حُجة مع قرائن الأحوال) (¬2).
وينبغي أن يُعد من ذلك ما وقع لأصحابنا في مواضع من الاحتجاج بمفهوم اللقب، كاستدلالهم بحديث: "حتيه ثم اقرصيه بالماء" (¬3)، وبحديث: "وتربتها طهورًا" على تَعَيُّن ذلك، لكن نَفْي ما سواه ليس من حيث الحكم بالاسم فقط، بل للانتقال من العام إلى الخاص، فإنه يدل على تَقَيُّد الحكم به، فلما ترك مطلق المائع وأتى بالماء وترك الأرض وأتى بالتراب، دَلَّ على الاختصاص، فلا يخرج عن عهدة الأمر إلا بامتثال الخاص. كذا قرره ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام"
قلتُ: مَن تأمل ذلك يجده لا يخرج عن اعتبار مفهوم اللقب.
نعم، أشار ابن دقيق العيد إلى التحقيق في المسألة، وهو أن يقال: إن اللقب ليس بحجة إذا لم يوجد فيه رائحة التعليل، فإنْ وُجدت، كان حجة.
قال: كما في قوله: "إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها" (¬4)، يُحتج به على أن الرجُل يمنع امرأته من الخروج إلا بإذنه؛ لأجل تخصيص النهي بالخروج للمسجد، فإنه يقتضي المنع من الخروج لغير المسجد، ولا يقال: إنه مفهوم لقب؛ لِمَا في المسجد من المعنى
¬__________
(¬1) صحيح مسلم (رقم: 522).
(¬2) المنخول (ص 217).
(¬3) صحيح البخاري (رقم: 225)، صحيح مسلم (رقم: 291) بلفظ: (تحتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ).
(¬4) صحيح البخاري (رقم: 4940)، صحيح مسلم (رقم: 442).
لذلك منهم من غير احتياج لأمر زائد. ولو كان وضع اللفظ لا يقتضي ذلك لَكَان أهم المهمات أنْ يُعلمنا الشارع ما يقتضيه بالوضع مِن غير احتياج لأمر آخَر، فإنَّ ذلك المقصود الأعظم في الإسلام.
ومن أدلتهم أيضًا قوله تعالى: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ: 30]. وهو ظاهر.
وأما أدلة الحنفية:
فمِن أعظمها أنه لو كان كذلك، لَلَزِمَ مِن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بطهور" (¬1) أن مَن تَطهر، يكون مصليًّا، أو تصح صلاته وإنْ فقد بقية الشروط.
وجوابه أن [الاستثناء] (¬2) مطلق يَصْدُق بِصُورة ما لو توضأ وصلَّى؛ فيحصل الإثبات، لا أنه عام حتى يكون كل متطهر مصليًّا.
وأيضًا: فهو استثناء [شرط] (¬3)، أي: لا صلاة إلا بشرط الطهارة. ومعلوم أن وجود الشرط لا يَلزم منه وجود المشروط.
وأيضًا: فالمقصود المبالغة في هذا الشرط دُون سائر الشروط؛ لأنه آكِد. فكأنه لا شرط غيره، لا أن المقصود نفي جميع الصفات.
وأيضًا: فقد يقال: الاستثناء فيه منقطع، وليس الكلام فيه. لكن ابن الحاجب قال: (إنه
¬__________
(¬1) سنن ابن ماجه (رقم: 271) وغيره بلفظ: (لا يَقبل الله صلاة إلا بطهور). وفي: صحيح ابن خزيمة (9)، صحيح ابن حبان (رقم: 3366) وغيرهما بلفظ: (لا تُقْبَلُ صَلاةٌ إِلا بِطَهُورٍ). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 3355).
(¬2) كذا في (ت، ض، س). لكن في (ص، ق، ش): المستثنى.
(¬3) في (ص): بشرط.
والعاشر: إنْ كان التخلف لمانع أو فَقْد شرط أو في معرض الاستثناء أو كانت منصوصة بما لا يَقبل التأويل، لم يقدح، وإلا قدح. وهو رأي الآمدي. وإنما حكم على النص بقبول التأويل لأنَّ مراده به ما هو أعم مِن الصريح والظاهر.

تنبيهات
أحدها: قال إمام الحرمين في "البرهان" وابن الحاجب أنَّ الخلاف في هذه المسألة لفظي لا فائدة له؛ لاتفاق المجوِّز والمانع على أن اقتضاء العلة للحكم لا بُدَّ فيه مِن عدم التخصيص، وسلَّموا أنَّ المعلِّل لو ذكر القيد في ابتداء التعليل لاستقامت العلة. فرجع الخلاف إلى أن ذلك القيد العدمي هل يسمى جزء العلة؟ أو لا؟
لكن رد ذلك في "المحصول" (¬1) بأنَّا إذا فسرنا العلة بالداعِي أو الموجِب، لم يجعل العدم جزءًا مِن العلة، بل كاشفًا عن حدوث جزء العلة. ومَن جوَّز التخصيص لا يقول بذلك. وإنْ فسرنا العلة بالأمارة، ظهر الخلاف في المعنى أيضًا؛ لأنَّ مَن يثبت العلة بالمناسبة يبحث عن ذلك القيد العدمي، فإنْ وجد فيه مناسبة، صحح العلة وإلا أَبطلها. ومَن يجوِّز التخصيص لا يطلب المناسبة أصلًا مِن هذا القيد العدمي.
وأما نَفْي الفائدة فمردود بأنَّ للخلاف فوائد:
منها: جواز التعليل بِعِلتين، وقد سبق بيان ذلك.
ومنها: انقطاع الخصم. وإذا ادَّعى بَعد ذلك أنه أراد بالعموم الخصوص وباللفظ المطلق ما وراء محل النقض، لا يُسْمَع دَعْواه؛ لأنه يُشبه الدعوى بعد الإقرار، فلا يُسمع إلا ممن له
¬__________
(¬1) المحصول في أصول الفقه (5/ 242)، الناشر: مؤسسة الرسالة.

الصفحة 79