كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

ملاحظاتي على الرسالة الخامسة
اعتمدت الباحثة في تحقيقها على خَمس نُسخ، هي: (ص، ض، ش، ت، ق).
ولم تتوفر لديها النُّسَخ: (س، ن 1، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5).
وإذا نظرنا في هذه الرسالة مَثَلًا، نجدها قد تناولت واحدًا وتسعين (91) بَيْتًا فقط مع شرح البرماوي، وهي الأبيات من رقم (522) إلى (612).
ولقد وَجَدْتُ في هذه الرسالة (في 91 بَيْتًا فقط غَيْر الشرح) أكثر مِن مائة (100) خطأ!
فماذا إذَا جَمَعْنَا إلى ذلك الأخطاء التي في تحقيق شَرْح هذه الأبيات؟ ! !
ولبيان ذلك يكفي ذِكر مثالين يتضمنان الأبيات الثلاثة الأُولى والبَيْتَيْن الأخيرين من الرسالة:
المثال الأول:
جاء في أول رسالة الباحثة الخامسة (ص 81، 94، 97):
الأمر الاقتضا لفعل غير [كفٍ] ... ما لم يفد بنحو كف مصدر [كفَّ]
كلتصم و [صلِ] و [النْهُي] طلب ... كف [بغير كف] يجتنب
كلا تبع وليس الاستعلاء ... شرطا ولا [يشترطْ] [العُلا]
قلتُ (عبد الله): فهذه الأبيات الثلاثة الأُولى في الرسالة وقد اشتملت على سبعة أخطاء أو أكثر! !
وقد وضعتُ مواضع الخطأ بين معكوفين هكذا []، فالصواب كما في تحقيقي:
ومعصية تجب بها النار -أَوْلى أنْ تطيب النفْس بقبولها مِن شهادة مَن يخفف المأثم فيها) (¬1).
انتهى قال [بعض] (¬2) شراحه كالصيدلاني وغيره: يعني بذلك الخطابية، وهُم قوم من الخوارج يرون الكذب كُفرًا يوجِب التخليد في النار. فإذا حلف أحدهم لصاحبه بما يدعيه، يَشْهد له.
قال: (وإنما لا تُقبل شهادته مطلقة، فإنْ بيَّن السبب مِن بيع أو إقرار أو غيره، قُبِل. ثُم ذَكر -يعني الشافعيَّ- أنَّ القلب إلى قول مَن يرى الكذب كفرًا أو موجِبًا للتخليد أَسْكَن بعد ما لم يكن مِن الخطابية). انتهى
فبيَّن الجمْعَ بيْن كلامَي الشافعي أوَّ، وآخِرًا.
واعْلم أن الشهرستاني وابن السمعاني وغيرهما ممن تَرجم للخطابية ذكروا أمورًا كثيرة مِن كُفرهم، ولم يذكروا استحلالهم الكذب ولا التكفير به، ولكن مَن حَفظ حُجة على مَن لم يحفظ. عَلَى أنَّ الإمام الرازي وأتباعه على هذا المذهب قالوا: إلا أنْ يكون قد ظهر عناد المبتدع، فلا يُقبل قولُه، لأنَّ العناد كذب.
وإنما لم أذكر ذلك لأن مَن ظهر عناده وتعمد الكذب، عُرِف أنه يستحل الكذب، فهو داخل في مُستحِل الكذب.
الثاني: يستفاد مما ذكرناه من الراجح في قبول المبتدع مسألة مَن أَقْدَم على مفسق مظنون معتقدًا أنه غير مفسق، أنه يُقْبل؛ لأن المبتدع قد أقدم بظنه على مفسق مقطوع به، ومع ذلك يُقبل، فهذا أَوْلى، وهو ما سبق نقْله عن الشافعي مِن قبول أهل الأهواء، والآخَر مأخوذ من قوله في شارب النبيذ الحنفي: (أحدُّه، وأَقْبَل شهادته). أي: لأنه لم يُقْدِم عليه بجرأة، ودليل
¬__________
(¬1) مختصر المزني (ص 310).
(¬2) من (ت، ق، ش).
ويدل على ما قاله ما سبق عن حكاية الهروي، فإنَّ أبا حنيفة جعله مُقِرًّا مع أنه لا يقول بالمفهوم، على أن التفصيل الأول موجود قديمًا، فدعْوَى ابن تيمية أنه خرق للإجماع ممنوعة، وكذلك اقتصار تاج الدين السبكي على أنه كلام والده، بل ولا خصوصية له بالمفهوم؛ فقد حكى إلْكِيَا الهراسي الخلاف في أن قواعد الأصول المتعلقة بالألفاظ كالعموم والخصوص وغير ذلك هل تختص بألفاظ الشارع؛ أو تجري في كلام الآدميين؟
وسيأتي في "باب العموم" حكايته عن القاضي حسين أيضًا، والراجح الاختصاص، ويشهد له هنا قولهم: إن المفهوم إنما كان حُجة لأنه في معني العلة، فيقتصر على المذكور دون المسكوت، ولا شك أن العِلَل لا ينظر إليها في كلام الناس؛ إذ لا يجري فيها القياس قطعًا.
وكذا قولهم: (إن المسكوت قد لا يخطر بالبال) إنما هو في غير كلام الشارع.
ومن هذا تخريج مسائل الفروع على القواعد الأصولية إذا كانت تلك الفروع من كلام الناس، ففيه نظر ظاهر، والله أعلم.

تذنيب
الشرح: ترجمتُ بذلك لِمَا بقي من مسائل وضع اللغة المحتاج إليها في الاستدلال.
وهو من مادة "ذنب" الدالة على التأخر والتعقب، ومنه: ذنب الدابة والذنابة، فهو استعارة منه.
والغرض بهذه الترجمة أمران:
أحدهما: بيان مَن هو واضع اللغة.
والثاني: بيان الطريق إلى معرفتها.
فإلى الأول أشرت بقولي:
فَخُذ عدد الاستثناءات الأشفاع (وهو خمسة) فأسقطها، فالباقي ستة.
لكن هذه الطريقة لا تأتي إلا في استثناءات متوالية بحيث لا يكون بين كل واحد من المستثنى منه والمستثنى شيء [كما] (¬1) في مثالنا، فتأمله.
وطُرُق أخرى لا نُطَوِّل بها.
وكل ذلك على الصحيح من الأقوال في المسألة. وبه قال البصريون والكسائي؛ لأن الحمل على الأقرب متعيِّن عند التردد.
وقيل: جميع الاستثناءات تجمع وتخرج من أصل المستثنى منه أولًا إن لم يستغرق، وإلا فتُبطل ما وقع به الاستغراق، وتُخرج الباقي من الأصل.
وبه أجاب أبو يوسف حين سأله الكسائي فيمن قال: (له عليَّ مائة إلا عشرة إلا اثنين)، فقال: يلزمه ثمانية وثمانون.
وقيل: الأمران محتملان حتى يعمل في نحو الإقرار باليقين ويُلغى المحتمل.
وفي قول رابع للفراء: إن الاستثناء الثاني منقطع، لكنه يصير المستثنى به ثابتًا، فتضمه في الثبوت للمستثنى منه أولًا، فيلزمه في مسألة أبي يوسف اثنان وتسعون كما يقوله البصريون ومَن وافقهم، لكن لا مِن حيث إنه استثناء مما قبله، بل لأن المراد: لكن له عندي اثنان مع التسعين الباقية بعد الاستثناء الأول.
وبالجملة: فالراجح القول الأول، حتى نقل فيه الأستاذان أبو إسحاق وأبو منصور إجماع أصحابنا عليه.
وفيه نظر؛ فقد قال الحناطي -فيما حكاه الرافعي عنه- فيما لو قال: (أنت طالق ثلاثًا
¬__________
(¬1) في (ت): لا كما.
المركَّبة وإخراجه مِن الاعتبار ببيان أنه لا أثر له.
وقولي فيه: (أُبْدِلَ أَوْ لَمْ يُبْدَلِ) إشارة إلى أن له صورتين:
إحداهما: أن يبدل ذلك الوصف الخاص الذي بُيِّن أنه لَغْو لا أثر له بوصف أَعَم منه، ثم ينقضه على المستدِل.
كأنْ يقول شافعي في إثبات صلاة الخوف: صلاة يجب قضاؤها؛ فيجب أداؤها، كصلاة الأمن.
فيقول المعترِض: خصوص كونها صلاة مُلغًى لا أثر له؛ لأنَّ الحج والصوم كذلك، فلم يَبْقَ إلا الوصف العام وهو كونها عبادة، فننقضه عليه بصوم الحائض، فإنه عبادة يجب قضاؤها ولا يجب أداؤها، بل يَحْرُم.
والثانية: أنْ لا يبدله، فلا يبقى إلا: وجب قضاؤها، فلا يجب أداؤها.
فيقال: ليس كل ما يجب قضاؤه يجب أداؤه؛ بدليل صوم الحائض. فقد أَعْرَض عن ذلك الوصف بالكُلية، وذكر صورة النقض.
قال الشيخ أبو إسحاق في "الملخص": (وهو سؤال مليح، والاشتغال به ينتهي إلى بيان الفقه وتصحيح العلة. وقد اتفق أكثر أهل العلم على صحته وإفساد العلة به، ويسمونه "النقض" مِن طريق المعنى و"الإلزام" مِن طريق الفقه. وأنكر ذلك طائفة من الخراسانيين). انتهى
ومن أمثلة ذلك -كما ذكره الشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني وغيرهما ومثَّل به أيضًا الآمدي وابن الحاجب- أنْ يقول شافعي في بَيعْ ما لم يَرَه المشتري: مبيع مجهول الصفة عند العاقد؛ فلا يصح، كما لو قال: بِعتُك عبدًا.
فيقول المعترِض: ينكسر بما إذا نكح امرأة لم يَرَهَا، فإنه يَصِح مع كونها مجهولة الصفة

الصفحة 83