نسخة (ت):
نسخة (ش):
نسخة (ق):
وأخيرًا:
أكرر ما قِيل سابقًا أنَّ مِن أَهَم المقاصد مِن ذِكر هذه الأمثلة أنْ ينتبه أصحاب هذه الرسائل إلى هذه الأخطاء عند إرادة النشر، فيصوبونها مِن خلال نشرتنا هذه، أو بالتواصل معنا عن طريق الناشر عند أي استشكال، وسيكون التعاون بيننا على البِر والتقوى إنْ شاء الله تعالى.
ومقصد آخَر لا يقل أهمية عن سابقِه، وهو تنبيه مَن يهمه الأمر إلى شحذ الهمم والانتباه إلى ضرورة وأهمية الرعاية المثْلَى لعلومنا الشرعية - المخطوط منها والمطبوع - التي كد فيها وتعب علماؤنا السابقون؛ لتحرير الأحكام وتذليلها للأفهام؛ لتنفع الأنام؛ فلا أَقَل مِن أنْ تصل النصوص إلى الأُمة كما أرادوها إنْ لم نزدها تحريرًا وتذليلًا، لا كما نرى تحريفًا وتشويهًا. فرغم أنَّ المقدار المكلَّف به بعضُ الباحثين قريبٌ مِن عُشْر الكتاب إلا أنَّ حجم التشويه والتحريف فاقَ المعقول كما سنرى بعد قليل، فكيف فات ذلك على المسئولين. إنها ذِكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
الانتشار، أو تكون موافِقة للقياس، وإلا فلا يُحتج بها.
ولا يخفَى ضعف ذلك، والله أعلم.
ص:
294 ثُمَّ الصَّحَابِيُّ الَّذِي قَدِ اجْتَمَعْ. . . مَعَ النَّبِيِّ مُؤْمنًا، بِذَا ارْتَفَعْ
295 وَإنْ يَكُنْ لَمْ يَرْوِ أَوْ لَمْ يُطِلِ. . . أَوْ مَا غَزَا مَعَ الرَّسُولِ الْأَكْمَلِ
الشرح:
إذا تَقرر أن الصحابة عدول، فلا بُدَّ من بيان الصحابي مَن هو؟ وما الطريق في معرفة كونه صحابيًّا؟ فذكرتُ في هذين البيتين المقام الأول.
وقد اختُلف في تفسير الصحابي على أقوال منتشرة، المختار منها ما اقتصرت عليه: وهو أن "الصحابي" مَن اجتمع مؤمنًا بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يَرْوِ عنه، ولو لم تَطُل صحبته معه، ولو لم يَغْزُ معه في شيء من غزواته.
فقولنا: (مَن اجتمع) يشمل مَن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لم يره؛ لكونه أعمى، كابن أم مكتوم. وخرج به: مَن رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كُشف له عنهم ليلة الإسراء وغيرها، ومن رآه في غير عالم الشهادة، كالمنام، وكذا مَن اجتمع به مِن الأنبياء والملائكة في السماوات؛ لأن مقامهم أجل مِن رُتبة الصحبة، وكذا مَن اجتمع به في الأرض، كعيسى والخضر إنْ صح ذلك، فإنما المراد الاجتماع المعروف على الوجه المعتاد، لا خوارق العادات؛ فلهذا لا يُورَد على هذا التعريف شيء من ذلك.
والتعبير بـ "اجتمع" أجود من التعبير بـ "رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - " أو "رآه النبي"؛ لِمَا ذكرناه. وأجود أيضًا من التعبير بِـ "صَحبَ"؛ لئلا يلزم الدَّور ما لم يُحمل "صَحبَ" على المعنى
اليوم على لغة) (¬1).
وفي "شرح سيبويه" لابن خروف: لو كانت اصطلاحًا، لم يختلفوا فيقول بعضهم: "مررت بأبيك"، وآخَرون: "بأباك". وأيضًا فقد استعملوا أبنية وتركوا غيرها، ولا سبيل إلى الاصطلاح؛ لأنه لم توجد أُمة وُلدت متكلمة ولا تكلمت حتى عُلِّمت.
واحتج ابن فورك بأنها لو كانت اصطلاحية لاحتاجت إلى لغة أخرى أو إشارة أو كناية، وذلك يحتاج إلى آخر، والآخر كذلك حتى ينتهي إلى غير مصطلح عليه؛ فيؤول إلى التوقيف.
المذهب الثاني: أن الله ألهم العباد أن يتكلموا بها من غير أن يضعها واضع، كأصوات الطير والبهائم حيث كانت أمارات على إرادتها فيما بينها بإلهام الله تعالى. حكاه صاحب "الكبريت الأحمر" عن الفارسي.
قلتُ: قد يقال: إن هذا عَيْن الذي قَبْله؛ لأنه لَمَّا ألهمهم ذلك كان عَين إرادته أنَّ هذا اسم لهذا، وهذا معنى الوضع بالنسبة إليه، فلا تَغايُر بينهما، وقد سبق أن من طُرق تعليم العباد "الإلهام"، فهو هذا.
وأخرج الحاكم في "المستدرك" عن جابر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ [يَعْلَمُونَ] (¬2)} [فصلت: 3]، ثم قال: ألهم إسماعيل هذا اللسان إلهامًا" (¬3). قال
¬__________
(¬1) الصاحبي في فقه اللغة (ص 14).
(¬2) في جميع النسخ: يعقلون.
(¬3) المستدرك على الصحيحين (2/ 516، رقم: 3641). قال الإمام الذهبي في (تلخيص المستدرك، رقم: 3698): (مدار الحديث على إبراهيم بن إسحاق العسيلي، وكان ممن يسرق الحديث). المستدرك على الصحيحين مع انتقادات الذهبي، طبعة: دار الحرمين بالقاهرة - 1997 م.
وقولي في النَّظم: (وَوَارِدٌ مِنْ بَعْدِ سَبْقِ جُمَلِ) تمامه قولي بعده:
ص:
633 - أَوْ مُفْرَدَاتٍ عُطِفَتْ بِالْوَاوِ ... وَلَمْ يَطُلْ فَصْلٌ مَعَ التَّسَاوِي
634 - في نَفْيِ مَانِعٍ فَرَاجِعٌ إلَى ... جَمِيعِهَا، وَإنْ رَأَيْتَ جُمَلَا
الشرح:
والإشارة بذلك من قولي: (وَوَارِدٌ) إلى قولي: (جَمِيعِهَا) إلى مسألة الاستثناء المتعقب لمتعدد من جمل أو مفردات هل يعود للكل؟ أو للأخير؟
وهي عكس المسألة التي قبلها، فإنَّ تلك في تعدُّد الاستثناء، وهذه في تعدُّد ما يمكن عَوْد الاستثناء إليه، وربما كانا متعددين. ويُعلم حُكمه مِن حُكم كُلٍّ من الأمرين.
والحاصل: أن الاستثناء إذا تعقب مذكورات متعاطفة بالواو، فإنْ لم يمكن عَوْدُه إلى كُلٍّ منها لدليل اقتضى عَوْدَه للأول فقط أو للأخير فقط أو كان عائدًا إلى كل منها بالدليل، فلا خلاف في العود إلى ما قام له الدليل.
وإنْ أَمكن بأنْ تَجرد عن قرينة شيء مِن ذلك، فهو محل الخلاف الآتي بيانه.
فمثال ما دل على عوده للأول دليل فيعود إليه قطعًا: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249] الآية، فاستثناء {مَنِ اغْتَرَفَ} إنما يعود إلى {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ}، لا إلى {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ}.
وقوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] الآية، فاستثناء {مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52] يعود إلى لفظ "النساء"، لا إلى الأزواج؛ لأن زوجته لا تكون مِلك يمينه.
"المحصول" ذلك بِـ "العكس" -وعليها جَرَى في "جمع الجوامع"- فيها نظر، إلا أنْ يُؤَوَّل؛ ولذلك عَبَّرتُ عنه في النَّظم بقولي: (وَ"عَدَمُ الْعَكْسِ" بِأَنْ لَا يَخْتَلِي حُكْمٌ لخلو عِلته)، وهو بالخاء المعجمة من "الخلو".
ومرادي أنْ لا ينتفي بانتفاء العلة؛ لأنَّ هذا معنى عدم الخلو مِن الحكم ووجود الخلو مِن العلة.
قال الهندي: (ولا يقال: "أنْ لا ينتفي عند انتفاء علته"؛ لأنه يقتضي أنْ يكون قد خَلَا مِن العِلل كلها) (¬1).
وهذا قادح قطعًا؛ لأنه لم يسلم له عِلة.
واعْلَم أنه يدخل تحت قولنا: (أنْ لا ينتفي الحكم لانتفاء عِلته) صورتان:
إحداهما: أن ينتفي في ذلك الأصل، مثل أن يقول شافعي في منع بيع الغائب: مبيع غير مرئي؛ فلا يصح، كبيع الطير في الهواء.
فيُعترض عليه بأنَّ عدم الرؤية قد ينتفي بأنْ يكون رأَى الطير في الهواء ومع ذلك البيع باطل لِعِلة أخرى وهي عدم القُدرة عليه. فوُجِد حُكم الأصل المعَيَّن بشخصه لِعِلة غير المنتفية.
الثانية: أن يوجد الحكم مع انتفاء الوصف في صورة أخرى، كما لو استدل حنفي على منع تقديم أذان الصبح بقوله: صلاة لا تقصر؛ فلا يُقَدَّم أذانها على وقتها، كالمغرب.
فيقول الشافعي: قد انتفى الوصف في صورة أخرى مع وجود الحكم، كالظهر، فإنه يُقْصر ولا يُقَدَّم أذانه على وقته.
¬__________
(¬1) نهاية الوصول (8/ 3442).