المبحث الرابع عشر: عَمَلِي في الكتاب
بَذَلْتُ جُهْدًا كبيرًا في ضَبْط كَلِمات هذه الأَلْفِيَّة بِمَا يُحَقِّق صِحَّة الوزن واستقامة المَعْنَى كما أرادَه النَّاظِم (شمس الدين البرماوي).
وقد جعلتُ محور اهتمامي تقديم نَصِّ الكتاب صحيحًا مضبوطًا؛ وذلك لأسباب ذكرتُها تفصيلًا في مقدمة تحقيقي لألفية الحافظ العراقي في أصول الفقه مع شرحها لابنه ولي الدين أبي زرعة "شرح النجم الوهاج، ص 16 - 27" (¬1)، حيث قلتُ فيه:
(إنَّ الخطأ في نقل المذهب قد يوجد داخل كُتُب بعض أهل المذهب أيضًا، وتصحيح هذه الأخطاء في النقل قد يحتاج إلى أبحاث مُطَوَّلة كما سَتَرون من الأمثلة التي سأذكرها، فرأيتُ أنَّ التزام تصحيح كل خطأ في نقل الأقوال أو في تحرير المذاهب سيؤدي إلى كبر حجم الكتاب، مما قد يؤخر صدوره ويضاعف تكلفته على القارئ.
فلا يتسع المجال هنا لتقديم دراسة نَقْدِيَّة لبيان مَدَى صحة فَهْم المؤلف لمذاهب الآخرين في كل مسألة أُصُولية، فهذا يحتاج إلى موسوعة ضخمة، وهذه الموسوعة أَعْمَل فيها الآن، فمجرد ذِكري لأمثلة قليلة هنا في المقدمة ستجدونها أخذت صفحات كثيرة.
لذلك رأيتُ أنْ أقتصر على تقديم نَصِّ الكتاب صحيحًا مضبوطًا ... لكن وجدتني مضطرًّا هُنا لِتَتَبُّع النصوص التي ينقلها ابن العراقي عن الآخرين مِن كُتُبهم، فأرْجِع بنفسي إلى هذه الكُتُب التي نَقَل منها؛ .. لِكَي أعْرف أين ينتهي النَّص المنقول وأين يبدأ
¬__________
(¬1) طُبع لأول مرة عام 2013 م، ونشرته مكتبة التوعية الإسلامية بتحقيقي.
اللغوي، ولأن الصحبة عُرفًا تتوقف على ملازمة ونحوها.
وخرج أيضًا بالاجتماع: مَن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته قبل الدفن، كأبي ذؤيب الشاعر خالد بن خويلد الهذلي؛ لأنه لَمَّا أَسلم وأُخبر بمرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، سافر؛ ليراه، فوجده ميتًا مسجًى، فحضر الصلاة عليه والدفن، فلم يُعَد صحابيًّا.
نعم، ابن عبد البر إنما يعتبر في الصحبة أنْ يُسْلم في حياته - صلى الله عليه وسلم - وإنْ لم يَرَه، فالذي رآه ميتًا من باب أَوْلى.
عَلَى أن الذهبي في "التجريد" للصحابة قد عَدَّ منهم أبا ذؤيب، وقوَّاه شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني، وقال: الظاهر أنه يُعَدُّ صحابيًّا.
ولكن مرادهم كلهم الصحبة الحكمية التي سنبينها، لا حقيقة الصحبة.
وخرج بالتقييد بالإيمان: مَن رآه واجتمع به قبل النبوة ولم يره بعد ذلك، كما في زيد بن عمرو بن نفيل، مات قبل البعث، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه يُبعث أُمة وحده" (¬1). كما رواه النسائي، وأما [ذِكر ابن منده وغيره له مِن] (¬2) الصحابة فمن التوسع الآتي بيانه.
وليس ورقة بن نوفل من هذا النوع؛ لأنه إنما اجتمع به بعد الرسالة؛ لِمَا صح في الأحاديث أنه جاء له بعد مجيء جبريل- عليه السلام- له وإنزال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] عليه، وبعد قوله له: "أَبْشر يا محمد، فأنا جبريل أُرسلتُ إليك، وإنك رسول هذه الأُمة". وقول ورقة له: "أَبْشر، فأنا أشهد أنك الذي بَشَّر به ابنُ مريم، وإنك على مثل
¬__________
(¬1) سنن النسائي الكبرى (رقم: 8187)، مسند أبي يعلى (973، 2047). وذكر الألباني الإسناد الأخير لأبي يعلى ثم قال: (إسناده حسن). صحيح السيرة النبوية (ص 94).
(¬2) في (ز): ما ذكره ابن منده وغيره زمن.
الحاكم: صحيح الإسناد.
قال الذهبي في "مختصره": (حقه أن يقول: "على شرط مسلم"، ولكن مدار الحديث على إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الغسيلي، وكان ممن يسرق الحديث). انتهى
المذهب الثالث وبه قال أكثر المعتزلة: أنها اصطلاحية، على معنى أن واحدًا أو جَمْعًا من البشر وضعوها، وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن، كتعريف الوالدين لغتهما للأطفال. وحكاه ابن جني في "الخصائص" عن أكثر أهل النظر.
وقال إلْكِيَا الطبري: معنى الاصطلاح أن يعرفهم الله مقاصد اللغات، ثم يهجس في نفس واحد منهم أن ينصب أمارة على مقصوده، فإذا بسطها وكررها واتصلت القرائن بها، أفادت العِلم، كالصبي يتلقى من والده.
وفسر ابن السمعاني الاصطلاح بأنه لا يبعد أن يحرك الله نفوس العقلاء لذلك ويُعَلم بعضهم مراد بعض، ثم ينشئون على اختيار منهم صِيَغًا لتلك المعاني المرادة، كتسمية الأب مولوده، وكذا تستحدث صنعة أو آلة فتسميها.
وعلى هذا القول قال ابن جني في "الخصائص": (إنها متلاحقة، بعضها يتبع بعضًا، لا أنها وضعت في وقت واحد) (¬1).
قال: وهو قول أبي الحسن الأخفش.
وهو الصواب بناء على أن الواضع وضع من أول الأمر شيئًا ثم احتيج للزيادة عليه بحصول الداعية إليه، فَزِيدَ فيه شيئا فشيئًا.
الرابع وبه قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني: القَدْر المحتاج إليه في التعريف توقيفي،
¬__________
(¬1) الخصائص (2/ 28 - 30).
وحديث: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا زكاة الفطر في الرقيق" (¬1).
ونحو ذلك ما قال أهل التفسير في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} [النساء: 83] إلى قوله: {إِلَّا قَلِيلًا}: إنه استثناء مِن الجملة الأولى.
ومثال العائد للأخير جزمًا -للدليل- لا إلى غيره: قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] الآية، فإنَّ {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} إنما يعود للدية، لا للكفارة.
ونحوه: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] لا يعود للسُّكْر؛ لأن السكران ممنوع من دخول المسجد؛ إذْ لا يُؤْمَن مِن تلويثة. قاله ابن أبي هريرة في "تعليقِه".
أو للأخير جزمًا وإنْ كان في غيره محتملًا، فيجري فيه الخلاف، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية، فـ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] عائد للإخبار بأنهم فاسقون قطعًا حتى يزول عنهم -بالتوبة- اسمُ "الفسق". بل قال بعض أصحابنا: ويلزم منه لازِم الفسق، وهو عدم قبول الشهادة، خلافًا لقول أبي حنيفة: إنه [تزول] (¬2) سِمةُ الفسق ولا تُقبل شهادته؛ عملًا بما سيأتي من قاعدته وهو العَوْد للأخير، لا إلى غيره.
ولا يعود في هذه الآية للجَلد المأمور به قطعًا؛ لأن حد القذف حَقُّ آدمي؛ فلا يَسقط بالتوبة.
وهل يعود إلى قبول الشهادة، فتُقبل إذا تاب؟ أوْ لا فلا تقبل؟
فيه الخلاف الآتي.
ومثال العائد للكل قطعًا بالدليل: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33] الآية، فـ {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} عائد للجميع بالإجماع كما قاله ابن السمعاني.
¬__________
(¬1) سبق تخريجه.
(¬2) في أكثر النُّسخ: يزول.
وقد جمع البيضاوي "عدم التأثير" و"عدم العكس" في قادح واحد؛ لِتَقارُب معنييهما عنده؛ لأنَّ "عدم التأثير" أنْ [يبقى] (¬1) الحكم بعد انتفاء الوصف في ذلك الأصل، و"عدم العكس" أنْ يثبت الحكم في صورة أخرى بِعِلة أخرى، ومثّلَهما بالمثالين السابقين، فلَم يجعلهما معًا مِن "عدم العكس" كما ذكرناه.
ولهذا تعقب الهندي مَن غاير بينهما، وقال: إنَّ كُلًّا منهما داخِل في مسمَّى "عدم العكس".
ثم قال البيضاوي: (إنَّ الَأوَّل يَقْدَحُ إِنْ مَنَعْنَا تَعْلِيلَ الوَاحِدِ بِالشَّخْصِ بِعِلَّتَين، وإنَّ الثاني يقدح إنْ منعنا تَعْلِيلَ الوَاحِد بِالنَّوْعِ بعِلتَّين) (¬2).
وهو ظاهر؛ لأنَّ الذي في أصل واحد تَعددت العِلة فيه في مُعَيَّن مُشَخَّص، والذي في صورة أخرى تَعددت العلة فيه في نوع؛ لأنَّ المنع في التقديم في الرباعية غير المنع في التقديم في غير الرباعية، ونوعهما واحد وهو منع التقديم على الوقت.
وجعل ابن الحاجب الصورتين معًا مِن أقسام "عدم التأثير"، وسيأتي بيانه [هناك] (¬3)، وكأنَّ ذلك لأنَّ ادِّعَاء عدم الوصف المعلَّل به وأنَّ الحكم وُجِد -طريقُه أنَّ الوصف إذا أُلغِي بعدم تأثيره، كان عَدَمًا.
واعلم أن قولنا: (ينتفي الحكم بانتفاء الوصف) [المراد] (¬4) انتفاء عِلمه أو الظن به كما أشار إليه ابن الحاجب وغيره، لا انتفاء نفس الحكم؛ لأنه لا يَلزم مِن انتفاء الدليل على
¬__________
(¬1) كذا في (ص)، لكن في (ت): ينفى.
(¬2) منهاج الوصول (ص 216) بتحقيقي.
(¬3) كذا في (ص، ق)، لكن في سائر النسخ: في مثال.
(¬4) كذا في (ص، ق، ش). لكن في (ت): معناه.