كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

كلام ابن العراقي) (¬1).
ثم قلتُ بعد ذِكر بعض الأمثلة: (الخلاصة: إنَّ تَتَبُّع الأقوال التي ينقلها الأصوليون وتصويب ما فيها مِن خطأ في النقل - قد يحتاج إلى أبحاث مُطَوَّلة كما رأيتم، ولو فَعَلْتُ هذا هنا في هذا الكتاب فسيكبر حجم الكتاب جِدًّا، ويتضاعف سعره على القارئ؛ لذلك رأيتُ الاقتصار - هنا - على تصحيح النَّصِّ وضَبْطه، بحيث أكُون قد وَضَعْتُ بين يدَي القارئ أَلْفِيَّة الحافظ العراقي في أصول الفقه وشَرْحها لابنه أبي زرعة، دُون نَقْص أو تحريف أو تصحيف في النَّصِّ، أو خطأ في ضَبْطه، أو خَلَل في العبارة.
وأمَّا تحرير الأقوال والمذاهب بصورة صحيحة مع الأبحاث المُتْقَنة المُحَررة - فيجدها القارئ - إن شاء الله تعالى - في موسوعة أصول الفقه التي أَعْمَل فيها الآن، حيث أذكر - في هذه الموسوعة - ما صح وثبت من الأقوال والمذاهب، مع التنبيه على ما يوجد في كُتب أصول الفقه من أخطاء في ذلك).
أما ما سوى ذلك من أعمال (مثل: وضع علامات الترقيم، وعزو الآيات، وتخريج الأحاديث مع ذِكر حُكم الشيخ الألباني عليها إنْ وُجِد أو حُكم إمام من أئمة الحديث كالحافظ ابن حجر العسقلاني، والترجمة للأعلام الواردة بِقَدْر الإمكان، وعمل فهارس متنوعة آخِر الكتاب، وغير ذلك) فكل ذلك يراه القارئ دُون الحاجة إلى تنبيه، وإنما اُنَبِّه فقط على أنَّ تراجم الأعلام جَمَعْتُها آخِر الكتاب، وما يحتاج إلى تنبيه ذكرتُه في "المبحث الخامس عشر" في آخِر هذه المقدمة.
¬__________
(¬1) هذا بحسب ما تَوفَّر من المراجع، وبحسب عثوري على موضع النقل أو عدمه.
ناموس موسى، وإنك نبيٌّ مرسل" (¬1)، ورؤيته عليه الصلاة والسلام لورقة في الجنة وعليه ثياب خضر. وجاء أنه قال: "لا تَسبُّوه؛ فإني رأيته وعليه جبة أو جبتان" (¬2). رواه الحاكم في "المستدرك".
وأما قول الذهبي في "التجريد": (إنَّ ابن منده قال: اختُلف في إسلامه، والأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة) فبعيد؛ لِمَا ذكرناه، فهو صحابي قطعًا، بل أول الصحابة كما كان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يقرره.
وخرج أيضًا بالاجتماع مؤمنًا: مَن ارتد بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو قَبْله وقُتل بالرِّدة، كابن خطل وغيره؛ فإنه بالردة تَبين أنه لم يجتمع به مؤمنًا؛ تفريعًا على قول الأشعري رحمه الله: إن الكفر والإيمان لا يتبدلان، خلافًا للحنفية، والاعتبار فيهما بالخاتمة.
أما مَن ارتد ثم رجع للإسلام كالأشعث بن قيس - رضي الله عنه - فقدْ تَبين أنه لم يَزَل مؤمنًا. فإنْ كان قد رآه مؤمنًا ثم ارتد ثم رآه ثانيًا مؤمنًا، فأوْضح؛ فإنَّ الصحبة قد حصلت بالاجتماع الثاني قطعًا.
وخرج أيضًا: مَن اجتمع به قبل النبوة ثم أسلم بعد المبعث ولم يَلْقَه، الظاهر أنه لا يكون صحابيًّا بذلك الاجتماع، لأنه حين ذاك لم يكن مؤمنًا كما روى أبو داود عن عبد الله بن أبي الحمساء: "بايعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يُبعث، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، ونسيتُ ثم ذكرتُ بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: يا فتى، لقد شققتَ علَيَّ، أنا في انتظارك
¬__________
(¬1) قصة ورقة بن نوفل في صحيح البخاري (رقم: 4670) وصحيح مسلم (160)، ولفظ الرواية في الشريعة للآجري (3/ 1442).
(¬2) المستدرك على الصحيحين (رقم: 4211) وغيره، بلفظ: "لا تَسُبُّوا وَرَقَةَ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ لَهُ جَنَّةً أَوْ جَنَّتيْنِ". وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة: 405).
وأمما غيره - وهو الزائد على الاحتياج - فاصطلاحي. كذا حكاه عنه ابن القشيري، وجرى عليه صاحب "المحصول" وأتباعه كالبيضاوي.
لكن الذي حكاه عنه ابن برهان والآمدي وغيرهما - وهو الصواب الموجود في كتاب الأستاذ - أنه محتمل لأنْ يكون توقيفيًّا أو اصطلاحيًّا. ونقله عن بعض المحققين من أصحابنا، وعلى النقلين يَصيران مَذهبين.
الخامس (عكس هذا المذهب): أن يكون القدر المحتاج محتملًا أو مصطلحًا على [النقلين] (¬1)، والباقي توقيفًا. وربما عُبر عن هذين القولين بأن مبتدأ اللغة توقيفي والباقي مصطلح، وبالعكس.
وإلى ذلك أشرت بقولي في النَّظم: (وَلَوْ لِقَدْرِ حَاجَةٍ تُعْتَبَرُ)، ثم بينتُ في البيت الذي بعده القول الآخر بقولي: (وَعَكْسٌ). وهذه الاحتمالات في النقل يمكن دخولها في هذه العبارة.
السادس: الوقف في المسألة، فلا يُقْضَى فيها بتوقيف ولا باصطلاح، لا في الكل ولا في البعض. وبه قال كثير، كالقاضي وجمهور المحققين كما في "المحصول"؛ لتعارض الأدلة عندهم، فلم يرجحوا شيئًا.
والسابع (وهو مختار ابن الحاجب وتبعه في "جمع الجوامع" واختاره أيضًا ابن دقيق العيد): الوقف عن القطع بواحد من الاحتمالات، ولكن التوقيف مطلقًا هو الأغلب على الظن.
الثامن (وهو يخرج من كلام ابن السمعاني): أن الكل محتمل مع ظهور مذهب الأستاذ.
التاسع: يخرج من كلام بعض المتأخرين أن الأعلام يُقطع فيها بالاصطلاح، والباقي محتمل.
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ش)، لكن في (ض، ظ، ت، ق): القولين.
وكذا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] الآية، فـ {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} عائد للكل.
وكذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] الآية، فَـ {إِلَّا مَنْ تَابَ} عائد للجميع. قال السهيلي: بلا خلاف.
أما ما تَجرد عن القرائن وأَمكَن عَودُه للأخير ولغيره ففيه مذاهب، أصولها ثلاثة: العَوْد للجميع، أو للأخير فقط، أو الوقف. وما سوى ذلك من الأقوال فإنما هو في إثبات قرينة صارفة أو نفيها كما سيتضح ذلك في محله.
فالمذهب الأول: وهو العود إلى الجميع. به قال الشافعي كما حكاه الماوردي والروياني، ونقله البيهقي في "سُننه" في "باب شهادة القاذف" عن نَصه، فقال: (قال الشافعي: والاستثناء في سياق الكلام على أول الكلام وآخِره في جميع ما يذهب إليه أهل العلم، لا يُفرق بين ذلك أحد) (¬1). انتهى
وكذا نقله غيره عن نَص "الأُم"، إذْ قال في "باب الخلاف في إجازة شهادة القاذف" في المناظرة بينه وبين مَن يمنع شهادة القاذف إذا تاب مع انتفاء اسم الفسق عنه استنادًا إلى عَوْد الاستثناء للأخير فقط:
(فقلتُ لقائل هذا: أرأيت رجلًا لو قال: "والله لا أكلمك أبدًا، ولا أدخل لك بيتًا، ولا آكل لك طعامًا، ولا أخرج معك سفرًا أبدًا، وإنك لغير حميد عندي، ولا أكسوك ثوبًا إن شاء الله" أيكون الاستثناء واقعًا على ما بَعد قوله: "أبدًا"؟ أو على ما بعد: "غير حميد عندي"؟ أَم على الكلام كله؟
قال: بل على الكلام كله.
¬__________
(¬1) السنن الكبرى للبيهقي (10/ 152).
الصانع انتفاؤه، بل انتفاء العلم به فقط. وهو معنى قولي في النَّظم: (إنْ عُلِمَا أَوْ ظُنَّ). أي: عُلم ذلك الانتفاء أو ظُن، لا انتفاء نفس الحكم.
ثُمَّ إذا انتفى الحكم -أَيِ العِلم به أو الظن- فإما بأنْ لا يكون له حُكم أو بأنْ يكون بإبدال حُكم بضده.
والثاني أبلغ، وإليه أشرتُ بقولي في النَّظم: (وَالْإبْدَالُ أَوْلَى)، وشاهده حديث: "أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فقالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في حلال، يؤجَر" (¬1). فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ضد حُكم الوطء المباح -وهو الإثم- في الوطء الحرام الذي هو ضد الوطء المباح، [لافتراقهما] (¬2) في عِلة الحكم وهو كون هذا مباحًا وذلك حرامًا.
ويدخل مثل هذا فيما يُسمى بـ "قياس العكس" كما سبق بيانه في تعريف القياس في باب الأدلة وأمثلة ذلك والاختلاف في كونه قياسًا أو مِن قبيل التلازم، فليراجَع.
ومما يمثَّل به أيضًا أنْ يقول الحنفي في القتل بالمُثقل: لَمَّا لم يجب القتل بصغير المثقل، لَمْ يجب بكبيره؛ بدليل عكسه، فإنه لَمَّا وجب القصاص بكبير الجارح، وجب بصغيره.
فالعكس بهذا المعنى لا يُشترط اتفاقًا؛ لجواز أنْ يوجب الشارع القصاص بكل جارح ويَخُص القصاص في المثقل بالكبير.
تنبيه:
قال إمام الحرمين في التدريس: إنَّ الذين يشترطون العكس في العلة اختلفوا: فمنهم مَن
¬__________
(¬1) صحيح مسلم (رقم: 1006).
(¬2) كذا في (ص) وهو الصواب، لكن في (ش، ت، س، ض): لاقترانهما.

الصفحة 90