كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

ورقة (2) من (ز) وعليها خط الحافظ البرماوي
تنبيهان
أحدهما: ذكر ابن الجوزي في كتاب "التلقيح" تقسيمًا للصحابة به يجتمع أكثر الأقوال السابقة، وتتضح مدارك قائليها، فجعلها مراتب:
الأولى: الصحبة المؤكدة المشتملة على المعاشرة وكثرة المخالطة بحيث لا يُعرف صاحبها إلا بها، فيقال: هذا صاحب فلان.
الثانية: مطلق الصحبة التي تَصْدق بمجالسةٍ أو مماشاة ولو ساعة وإنْ لم يشتهر بها صاحبها.
قال: وكلام سعيد بن المسيب محمول على إرادة القِسم الأول، وكلام غيره على القسم الثاني؛ فلذلك عدوا جريرًا وأشباهه ومَن لم يَغْزُ ومَن تُوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير السن.
قال: وأما مَن رآه رؤية ولم يجالسه ولم يماشه -أيْ: وهو المرتبة الثالثة- فألحقوه بالصحبة إلحاقًا وإنْ كان حقيقة الصحبة لم توجد في حقه. أيْ: فهي صحبة إلحاقية؛ لشرف قَدْر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لاستواء الكل في انطباع طلعة المصطفى فيهم برؤيته إياهم أو برؤيتهم إياه مؤمنين وإنْ تفاوتت رُتَبهم (¬1). انتهى
وهو كلام متين.
الثاني: زعم جمعٌ من الأصوليين -كالآمدي وابن الحاجب- أن الخلاف في ذلك لفظي.
وليس كذلك؛ فإنَّ مِن فائدته القول بعدالة الكل، وقد أشار إليه ابن الحاجب، ففي كلامه تعارُض بين أوله وآخِره، فإنه قال بعد ذِكر الخلاف في ضابط الصحبة: (وهي لفظية
¬__________
(¬1) تلقيح فهوم أهل الأثر (ص 72).
قال في "المطلب": والأشبه عدم بنائه على ذلك؛ لأنه مُفَرع على وضع الاسم بالاصطلاح، وإذا جاز، صار كالاسم المستمر. ولو كان اسمها بعد الرق "حرة" ولم يكن ذلك من تسميته وناداها به وقصد ذلك، لم يقع، فكذا هنا.
وغير ذلك من الصوَر.
والحقُّ أنه لا يتخرج شيء من ذلك على هذه القاعدة؛ لأن مسألتنا في أن اللغات التي هي بين أَظْهُرنا هل هي توقيف؟ أو اصطلاح؟ لا في شخص خاص اصطلح مع صاحبه على تغيير الشيء عن موضوعه.
وإنما تناسب هذه الفروع قاعدة: "إن الاصطلاح الخاص هل يرفع الاصطلاح العام؟ أو لا؟ " وفيها خلاف.
ومنهم من قال: فائدة الخلاف في مسألتنا تظهر في جواز قلب اللغة، فالقائلون بالتوقيف يمنعونه مطلقًا، وبالاصطلاح يجوزونه إلا أن يمنع الشرع منه كما قاله القاضي وإمام الحرمين وغيرهما.
وأما المتوقفون فقال المازري: اختلف فيه المتأخرون، فقال [الآذري] (¬1) بالجواز كمذهب الاصطلاح، وعبد الجليل الصابوني بالمنع.
وقال الماوردي في "تفسيره": (فائدة الخلاف أن مَن قال بالتوقيف جعل التكليف مقارنًا لكمال العقل، ومَن جعله اصطلاحًا جعله متأخرًا مدة الاصطلاح).
ثم حكى وجهين في تعليم الأسماء لآدم عليه السلام:
(أحدهما ان التعليم كان للاسم دون المعنى.
¬__________
(¬1) لعلها الأزدي. وفي (ض، ش): الأدري. وفي (ق): الأودني. وفي (ظ): الأودي. وفي (ت، تقريبًا ص): الآذَرِي.
بأنه لا فرق، ودليل على أن مَن عبر به إنما هو باعتبار الغالب؛ فإن العَوْد إلى جميع المفردات أَوْلى مِن الجُمَل، بل في كلام ابن الحاجب وغيره ما يؤخَذ منه الاتفاق في المفردات.
وقد مثَّل الرافعي وغيره المسألة في الوقف بِـ (وقفتُ على أولادي وأحفادي وإخوتي المحتاجين إلا أن يفسق بعضهم) وهي مفردات، إلا أن يقال: العامل في كُلٍّ فِعل آخر، [فتصير] (¬1) جُملًا. لكنه ضعيف في العربية.
ومثَّله الإمام في "البرهان" بصريح الجُمل، فقال: (كَـ: وقفتُ على بني فلان داري، وحبستُ على أقاربي ضيعتي، وسبلت على خَدَمي بيتي، إلا أن يفسق واحد منهم) (¬2).
ولهذا عبرّتُ في صدر المسالة بأنه إذا تعقب مذكورات كما صرحت بالأمرين في النَّظم.
نعم، يبقى النظر فيما يسمى جملة، والمشهور أنها الاسمية من مبتدأ وخبر، والفِعلية من فعل وفاعل.
وقال ابن تيمية: المراد بها هنا اللفظ الذي فيه شمول ويصح إخراج بعضه.
ولهذا مثَّلوا بالأعداد، وكذا آية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]، فهي مفردات مُؤَوَّلة مِن "أنْ" والفعل، عقبها قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}.
وحاصله يرجع إلى أن مَن عَبَّر بالجمل فإنما أراد الأَعَم بالتقرير الذي ذكره، وهو حَسَن.
ومنها:
أن يكون المذكورات قبل الاستثناء متعاطفة كما صرح به القاضي في "التقريب" والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني وابن القشيري، والسهيلي أبو عبد
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ق). وفي سائر النسخ: فيعتبر.
(¬2) البرهان (1/ 266).
وَيرجع حاصله إلى معارَضة بِعِلة أخرى.
نعم، هذا المثال قرره القاضي أبو الطيب في "تعليقته" في الكلام على بيع الغائب بتقرير آخَر.
فقال: لنا: أنه باع عَيْنًا لَمْ يَرَ منها شيئًا؛ فلا يصح، كما لو باع النوى في التمر.
قال: فإنْ قيل: قولكم: "لم ير منها شيئًا" لا تأثير له في الأصل؛ لأنَّ بعض النوى إذا كان ظاهرًا نراه وبعضه غير ظاهر فإنَّ البيع لا يصح.
فالجواب: أنه ليس مِن شرط التأثير أن يكون موجودًا في كل موضع، وإنما يكون وجود التأثير في موضع واحد، وتأثيره في بيع البطيخ واللوز، فإنه يرى بعضها ويكون بيعها صحيحًا.
وقال الإمام في "البرهان": (عدم التأثير في الأصل هو تقييد عِلة الأصل بوصف لا أثَر لأجله في الأصل. كقول الشافعي في منع نكاح الأَمة الكتابية: أَمة كافرة؛ فلا تُنكح، كالأَمة المجوسية. فلا أثر للرق في الأصل).
قال: (والمحققون على فساد العلة بذلك، وقيل بصحتها؛ إذْ للرق على الجملة أثر للمنع، وشبهه بالشاهد الثالث المستظهَر به. وهو ضعيف؛ إذِ الثالث متهيئ لوقوعه ركنًا عند تَعذُّر أحد الشاهدين، بخلاف الرق).
ثم قال الإمام: (إنَّ ذلك الوصف إذا لم يكن له أثر ولا غرض فيه، فهو لَغْو، ولا تبطل العلة؛ لاستقلالها مع حذف القيد) (¬1).
الثالث: أنْ يكون في جملة ما عُلِّل به قيد لا تأثير له في حُكم الأصل الذي قد عُلِّل به،
¬__________
(¬1) البرهان في أصول الفقه (2/ 663 - 666).

الصفحة 93