كتاب الفوائد السنية في شرح الألفية

الورقة الثانية من (ق)
آخر ورقة من (ق)
فمن الطرق الظاهرة: التواتر والاستفاضة بكونه صحابيًّا أو بكونه من المهاجرين أو من الأنصار، وقول صحابي ثابت الصحبة: (إنَّ هذا صحابي)، أو ذِكر ما يَلزم منه أن يكون صحابيًّا، نحو: (كنت أنا وفلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -)، أو: (دخلنا عليه)، ونحو ذلك، لكن بشرط أن يُعرف إسلامه في تلك الحالة واستمرار ذلك كما عَلِمتَه مما سبق.
وأما الخفِي: فهو إذا ادَّعَى العَدْل المعاصِر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صحابي. قال القاضي: يُقبل؛ لأن وازع العدالة يمنعه من الكذب. أي: مثل ما روى البخاري في "المغازي" عن الزهري، عن سنين أبي جميلة، قال: زعم أنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج معه عام الفتح (¬1).
وحكى هذا المذهب أيضا أبو بكر الصيرفي في كتاب "الدلائل والأعلام" حيث قال: لا يُقبل حتى تُعلم عدالته، فإذا عُرفت، قُبِل منه.
وجَرَى على ذلك ابن الصلاح والنووي.
ومنهم مَن توقف في الثبوت بذلك؛ لأنه يثبت رُتبةً لنفسه، وهو ظاهر كلام ابن القطان المحدث، وبه قال أبو عبد الله الصيمري من الحنفية، وأنه لا يجوز أن يقال: (إنه صحابي) إلا عن عِلم ضروري أو كسبي، وهو ظاهر كلام ابن السمعاني أيضًا.
ويخرج من كلام بعضهم مذهب ثالث بالتفصيل بين:
- مُدَّعِي الصُّحْبَة اليسيرة، فيُقْبَل، لأنه قد يتعذر إثبات صحبته بالنقل، إذْ ربما لا يحضره حين اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أو حال رؤيته إياه.
- ومُدَّعِي طول الصحبة وكثرة التردد في السفر والحضر، لا يُقبل ذلك منه؛ لأن مثل ذلك يشتهر وينقل.
¬__________
(¬1) صحيح البخاري (رقم: 4050).
ص:
481 - بِهِ، وَعَكْسٌ، ثُمَّ طُرْقُ الْمَعْرِفَهْ ... مِنْ أَهْلِهَا بِمَا تَرَى أَنْ تَعْرِفَهْ
482 - النَّقْلُ بِالْآحَادِ أَوْ تَوَاتُرِ ... كَذَلِكَ اسْتِنْبَاطُ عَقْلٍ وَافِرِ
483 - مِنْ ذَاكَ، لَا مُجَرَّدُ الْقِيَاسِ ... وَلَا بِعَقْلٍ دُونَ ذَا الْأَسَاسِ
الشرح:
قولي: (بِهِ، وَعَكْسٌ) متعلق بما سبق من الإشارة إلى بقية المذاهب في تلك المسألة كما بيناه.
وقولي: (ثُمَّ طُرْقُ الْمَعْرِفَهْ) إشارة إلى الأمر الثاني مما عقد له الترجمة بالتذنيب، وهو بيان الطريق إلى معرفة اللغة من أهلها الذين قد تلقوها من واضعها:
- إما من الله تعالى إنْ قلنا بالتوقيف بواسطة ما سبق من الوحي إلى الأنبياء أو الإلهام أو غيره على ما سبق.
- وإما من الذي وضعها من البشر.
والذي يقتضيه التقسيم ثلاثة أقسام: نقل محض، وعقل محض، ومركَّب منهما.
فالأول والثالث صحيحان، والثاني باطل كما سنبينه.
فأما النقل المحض فَعَلَى ضربين:
إما [تَواتُر] (¬1): كالأرض والسماء والحر والبرد، وهو يفيد القطع.
وإما آحاد: كالقرء ونحوه، وهو يفيد الظن عند اجتماع الشروط السابقة في
¬__________
(¬1) في (ت، ق، ظ): متواتر.
خلاف عَوْد الاستثناء للكل أو للأخيرة) (¬1).
وزاد النووي أن الصحيح التعميم.
فاستفدنا مِن ذلك أن الخلاف جارٍ مع عدم العطف، وأن الاستثناء المتقدم على الجمل يجري فيه الخلاف، وسيأتي خِلافه.
قلتُ: سيأتي أن هذه المسألة إنما هي في الاستثناء الحقيقي، لا في تعليق المشيئة. وتَقدُّم الشرط سيأتي أنه يعود للكل. والظاهر أن ذلك سواء مع العطف وعدمه، فليس مما نحن فيه.
واعلم أن البيانيين ذكروا أن ترك العطف قد يكون لكمال الارتباط، نحو: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].
وحينئذٍ ففي مِثل ذلك قال الشيخ تقي الدين السبكي: (لا يبعد مجيء الخلاف فيه).
قال ولده في "شرح المختصر": (يحتمل أنهما لما صارا كالجملة الواحدة، فيعود للجميع قطعًا) (¬2).
ومنها:
كون العطف بالواو أو نحوها مما يقتضي المشاركة، خلافًا لمن أطلق كما نقله الرافعي عن أصحابنا، وخلافًا لما نقله الرافعي أيضًا عن إمام الحرمين من تقييده بِـ "الواو" في تدريسه، إذْ قال: (ورأى الإمام تقييده بقيدين، أحدهما: أن يكون العطف بالواو الجامعة، فإنْ كان بـ "ثُم"، اختص بالأخيرة. والثاني: أن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل، كما لو قال: "وقفتُ على أولادي، فمَن مات منهم وأعقب، كان نصيبه لأولاده، للذكر مثل حظ الانثيين، وإلا
¬__________
(¬1) العزيز شرح الوجيز (12/ 232).
(¬2) رفع الحاجب (3/ 272).
واعْلَم أنَّ هذا القسم كيف كان مبني على قبول الفرض، مَن قبله رَدَّ هذا، ومَن منعه قَبِل هذا. كما لو قال المسئول عن [نفود] (¬1) عتق الراهن: (أفرض الكلام في المعسِر)، أو عن مَن زوجت نفسها: (أفرض فيمن [زوجت] (¬2) مِن غير كُفء).
فإذا خَصَّ المستدِل تزويجها نفسها مِن غير الكُفء بالدليل، فقد فرض دليله في بعض صوَر النزاع.
وحاصل الخلاف في الفرض مذاهب:
أحدها: المنع. وبه قال ابن فورك بشرط أن يكون الدليل عامًّا لجميع مواقع النزاع؛ ليكون دفعًا لاعتراض الخصم مطابقًا للسؤال.
الثاني: وبه قال الجمهور: الجواز؛ لأنه قد لا يساعده الدليل على الكل، أو يساعده غَيْر أنه لا يَقْدر على دَفْع كلام الخصم، بأنْ يكون كلامه في بعض الصوَر أشكل، فيستفيد بالفرض غرضًا صحيحًا. ولا يفسد بذلك جوابه؛ لأنَّ مَن سأل عن الكل فَقَدْ سأل عن البعض.
الثالث: وبه قال ابن الحاجب: إنْ كان الوصف المجعول في الفرض طردًا فمردود، وإلا فمقبول.
وقال ابن التلمساني: الوجه أنْ يقال: قد يستفاد بالفرض تضييق مجاري الاعتراض على الخصم -وهو مِن مقصود الجدل- أو وضوح التقرير. ولهذا المعنى عدل الخليل -عليه الصلاة والسلام- في تقرير الاستدلال على النمرود بالأثَر على المؤثِّر إلى الأوضح عند النمرود بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} [البقرة: 258] الآية.
¬__________
(¬1) في (ش): تفرد. وفي (ت): نفود. وسائر النسخ غير واضحة.
(¬2) كذا في (س، ض، ش)، لكن في (ص، ق): زوجته.

الصفحة 95