الورقة الأولى من (ظ)
واعْلَم أن ابن الصلاح قال في قول ابن عبد البر ذلك: (إن ما قاله فيه اتساع غير مرضِي) (¬1).
واستدلاله بذلك لا يصح من وجهين:
أحدهما: الإرسال والضعف.
والثاني: عدم صحة كَوْنه خبرًا؛ لأن كثيرًا ممن يحمل العِلم غير عدلٍ، فَلَم يَبْقَ إلا حَمْله على الأمر، ومعناه أنه أمر الثقات بحمل العلم؛ لأن العلم إنما يُقْبَل عن الثقات، ويدل له أن في بعض طرق ابن أبي حاتم: "لِيَحْمِل هذا العِلم" بلام الأمر، والله أعلم.
¬__________
(¬1) مقدمة ابن الصلاح (ص 106).
يَثبُت له آخَر قياسًا، كما في الأحكام لا يكون للشيء حُكم بالنص وحُكم آخَر بالقياس مخالِف له.
قلتُ: قد يُفرق بالاستحالة هناك؛ لأن فيه جمع ضدين، بخلاف الاسمين، فإنه لا تَضاد بينهما؛ لأن كلًّا منهما علامة، ولا يمتنع تَعدُّد العلامة، كدليلين على حُكم واحد.
وأيضًا فقد سبق أنه لا يَلزم أن يكون كل معنى له لفظ يدل عليه، بل كل معنى محتاج إلى لفظ، وهذا يوجد بطريق العموم.
واحتُج أيضًا للمنع بأن القياس إنما هو في المشتق حتى يكون ما منه الاشتقاق هو العلة، والعرب قد لا تَطْرُد الاشتقاق كما سبق.
قلتُ: قد تكون العِلة غَيْر ما منه الاشتقاق، بل تناسب الاسم، كما في تسمية اللائط زانيًا؛ فإن العلة ليست ما اشتق منه لفظ "الزاني" وهو "الزنَى"، ونحو ذلك. وأيضًا التجوز إذا قُدِّر بأنه في المصدر كاللواط وكالنبش، فأين الاشتقاق على القول المرجَّح أن المصدر أصل للفعل والوصف؟
الثاني (وعليه الأكثر من أصحابنا كما قاله القاضي أبو الطيب وابن برهان والسمعاني ومنهم ابن سريج وابن أبي هريرة وأبو إسحاق الشيرازي والإمام): الجواز.
قالوا: لأن الاشتقاق في الاسم كالتعليل، فحيثما وُجد المشتق منه نُلحقه بالمشتق في التسمية. ونقله الأستاذ أبو منصور في كتاب "التحصيل" عن نَص الشافعي، فإنه قال في الشفعة: إن الشريك جارٌ؛ قياسًا على تسمية امرأة الرجل جارة له.
و[لذلك] (¬1) قال ابن فورك: إنه الظاهر من مذهب الشافعي؛ إذ قال: الشريك جار.
¬__________
(¬1) كذا في (ظ). لكن في (ص): به. وفي (ت): كذا. وفي (ض، ت): له.
ولا يخفى ضَعْفُ الأمرين؛ لِمَا ذكر الأئمة مِن الأمثلة في محل الخلاف.
وكذا اشتراط تأخُّر الاستثناء. ولكن الصواب لا فرق.
وأما المتوسط بين جملتين إحداهما معطوفة على الأخرى فَقَلَّ مَن تَعرَّض له، وقد ذكره الأستاذان أبو إسحاق وأبو منصور، نحو: (أَعْطِ بني زيد إلا من عصاك، وأَعْطِ بني عمرو). وحكيَا عن الأصحاب فيها وجهين: الرجوع إليهما، وإلى ما قَبله دُون ما بَعده. ثم ذكرَا كلامًا في الأمر والخبر وأَطالَا فيه.
وقياس قول أبي حنيفة باختصاصه بالجملة التي تليه أنَّ الاستثناء إذا تَقدم، اختص بالجملة الأُولى.
وربما خرج من هذه القيود مذاهب غير ما سنذكره من المذاهب الأصلية.
فالمذهب الثاني في المسألة:
أنه عند التجرد عن قرينة للكل أو للبعض إنما يعود للأخير فقط، وهو قول أبي حنيفة وأكثر أصحابه، واختاره الإمام الرازي في "المعالم"، وقال الأصفهاني في "القواعد": إنه الأشبه. ونقله صاحب "المعتمد" عن الظاهرية، ويحكَى أيضًا عن أبي عبد الله البصري من المعتزلة وعن أبي الحسن الكرخي، وإليه ذهب الفارسي، وحكاه إلْكِيَا وابن برهان عنه، واختاره المَهَابَاذيُّ في "شرح اللمع".
وقد يُظَنُّ أن ذلك مذهب الشافعي؛ لأن النصوص -كما قال الشيخ أبو إسحاق- فيما لو قال: (أنت طالق طلقة وطلقة إلا طلقة) وقوع طلقتين. وفي وجهٍ: طلقة. فيظن أن هذا [بناءه] (¬1) على عَوْدِه للجميع، وأن النص بناء على عَوْده للأخير.
¬__________
(¬1) كذا في (ص)، لكن في (س، ق): بناء.
يَكون في الأصل قِسمان:
أحدهما: مُنْتَفٍ في الفرع باتفاق الخصمين.
والآخَر: متنازَع فيه بينهما. فإذا أراد أنْ يثبته في الفرع قياسًا على الأصل، فيقول المعترِض في التسوية بينهما في الفرع؛ بالقياس على الأصل. ويَلْزَم مِن وجود التسوية في الفرع عدمُ ثبوته فيه. وهو معنى قولي: (يُنْفَى بِهِ مَعَ اسْتِوَاءٍ حُكْمَا).
وذلك كقولهم في نية الوضوء: طهارة بالماء؛ فلا يفتقر إلى النية، كإزالة النجاسة.
تنبيهات
الأول: "القلب" يتضمن أن دليل المستدِل صح ولكنه دليل عليه كما قررناه، لكن صحته إنما هي على تقدير التسليم، وهذا مأخوذ من تسمية "القلب" معارضة، فإنَّ المعارَضة لا تُفْسِد العلة، بل تمنع مِن التعلق بها إلى أنْ يثبت رجحانها مِن خارج.
وفي قول: إنَّ "القلب" تسليم للصحة مطلقًا. وهذا مأخوذ مِن قول بعض أصحابنا: القلب شاهد زور، كما يشهد لك يشهد عليك. وهذا نظير قول ابن السمعاني في توجيه سؤال القلب: (إنه يُعَلق على العلة ضد ما عَلَّقه المستدل مِن الحكم، فلا يكون أحد الحكمين أَوْلى مِن الآخَر، ويبطل تعلقهما بها). كذا قرره السبكي، وأنَّ الأقوال مستخرجة مِن ذلك.
لكن قال الإمام في "البرهان": (ذهب ذاهبون إلى رَدِّه؛ لكون ما جاء به القالب ليس مناقضًا لِما صرَّح به المعلِّل، بل هو كالمعارضة [الحائدة] (¬1). وذهب ذاهبون إلى قبوله؛
¬__________
(¬1) كذا في (ص، ت، ض)، وفي (ق، ش): الجائزة. وفي (س): الجامدة. وعبارته في (البرهان، 2/ 670): (فالقلب إذًا حائد عن مقصد المعلِّل ومحل العلة، وهو في حكم معارضة في غير محل التعليل).