كتاب الثالث من أمالي ابن الصلاح

آثارها، إذ امتلأت بسوء السيرة من الرعاة المسلطين، وقبح أخبار الأخلاف الباقين، من المتسمين بالعلماء المتشبعين، المنتحلين فيما يدعون، والمتحلين بما هم منه عاطلون، حرصهم على جمع الحطام، وإن كان من الحرام، لا يبالون ما وهي من دينهم إذا اجتبرت دنياهم، ولا بسخط الله إذا أرضوا من أعطاهم، يتلبسون بالمشاين ليأكلوا السحت علنا، ويأخذون عرض هذا الأدني ويقولون سيغفر لنا، ولو كانوا من النفر الذين يزعمون لسمت بهم الهمة إلى معالي الأمور ولم يسفوا للدنية، ولصانتهم عزة العلم عن الأطماع الشائنة والمطاعم الردية، لا! ولكنهم بالأسامي من المعاني مكتفون، وبالمجازات من الحقائق راضون، جعجعة ولا طحين في الوعاء، وقعقعة ولا ثبات عند الهيجاء. هيهات! متى يشبه الشبه النضار، والوشل البحار، ومن أين للضباب صوب السحاب، وللغراب هوي العقاب!؟
إلى أن يقول - بعد كلام فيه طول -: ومع ما ذكرنا من سقوط نجم العلم وتنكس راياته، وبوار بضائعه وخمود جمراته، فإن في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا، هم صفوة العباد، ونقاوة أهل البلاد، بهم حياة الملة، وبقاء السنة، يجددون أخلاق العلم، ويرفؤون خرقه، ويحيون دارسه، ويرقعون وهيه، هم في جفوة من الناس، ونكد من الزمان، مخصوصون من أبناء الدنيا بالحرمان، قد رضوا بالعلم رفيقا وجارا، وبالجنة مقرا ودارا، واكتفوا من الدنيا بما قاتهم، وعلموا أن في الله خلفا

الصفحة 77