المطلب الثالث: أسباب نشوء المذاهب الفقهية
لقد تهيأتْ بعضُ الظروفِ التي أسهمتْ وساعدتْ في نشأةِ المذاهب الفقهيةِ، وبالنظرِ والتأمّلِ في المذاهب، فقد ظَهَرَ لي عددٌ مِن الأسباب التيَ يمكنُ القولُ إنَّها أسبابٌ لنشوئها.
السبب الأول: اختلافُ الأصولِ والمناهج التي سار عليها المجتهدون.
فالأدلةُ المستَدَّلُ بها، وطُرُقُ الاستنباطِ منها، والمنهجُ المتبعُ عند تعارضِها، أمورٌ تختلفُ مِنْ مجتهدٍ إلى آخر، ومِنْ مدرسةٍ فقهيةٍ إلى أخرى (¬١) - وإنْ كان هناك نوعُ تقاربٍ بين بعض المجتهدين - الأمر الذي يدعو إلى تمايزِ مناهجِ المجتهدين، ولَفْتِ نَظَرِ تلامذتِهم إليه، وهو داع إلى استقلالِ المجتهدِ بمذهبٍ، له أصولُه وفروعُه المستقلةُ.
فمثلًا: إذا كان المجتهدُ يحتجُّ بالحديثِ المرسلِ (¬٢) وفقَ شروطٍ معينةٍ
---------------
(¬١) انظر: تأريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص/ ٢٣٤)، والجديد في تاريخ الفقه للدكتور محمد إمبابي (ص/ ١٤٠).
(¬٢) المرسل عند الأصوليين: أنْ يقول غيرُ الصحابي قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا. انظر: الحدود للباجي (ص/ ٦٣)، وتقريب الوصول لابن جزي (ص/ ٣٠٥)، وشرح الكوكب المنير (٢/ ٥٧٤)، وفواتح الرحموت (٢/ ١٧٤)، ونشر البنود (٢/ ٦٠).
وعند المحدثين: ما سقط منه مِن منتهاه ذكر الصحابي، كأنْ يقول التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا. انظر: الاقتراح في بيان الاصطلاح لابن دقيق العيد (ص/ ٢٠٨)، والمعيار في الأحاديث الضعيفة والموضوعة لتاج الدين التبريزي (١/ ١٨)، ونزهة النظر لابن حجر (ص/ ١٠٩ - ١١٠)، وفتح الميث للسخاوي (١/ ٢٣٨)، وتوضيح الأفكار للصنعاني (١/ ٢٨٣).