العمل من القوم، وليس منه؛ لقوله - سبحانه وتعالى - مخبرًا عن ذي القرنين أنه قال: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} الكهف: (96) (¬1)، ويحتمل أن تكون جعالةً على إقامة السد، ثم إن ذا القرنين كان ملكًا عظيمًا (¬2) وفي القصة ما يدل على أنه لم يأخذ أجرًا على ذلك {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} الكهف: (95).
الدليل الثاني: الإجماع العملي على جوازه، كما نقله غير واحد (¬3).
المناقشة: عدم تسليم الإجماع، بدليل مخالفة الجمهور (¬4).
الجواب: أن الإجماع المقصود هنا هو الإجماع العملي، كما نص عليه من نقله، ولا يكاد يخلو أحد من أهل العلم في هذا العصر من أن يكون تعاقد بطريق الاستصناع (¬5).
الدليل الثالث: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اصطنع خاتمًا من ذهب وجعل فصه في بطن كفه إذا لبسه، فاصطنع الناس خواتيم من ذهب، فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال: (إني كنت اصطنعته وإني لا ألبسه) فنبذه فنبذ الناس (¬6).
وجه الدلالة: قال في "النهاية": ((اصطنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من ذهب) أي: أمر أن يصنع له، كما تقول اكتتب أي أمر أن يكتب له، والطاء بدل من تاء الافتعال لأجل الصاد) (¬7)، وهذا نص في جواز الاستصناع؛ لأن الافتعال والاستفعال جنسٌ واحدٌ في الأفعال.
المناقشة:
1. لا يلزم أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اصطنع الخاتم بطريقة الاستصناع التي قال بها الحنفية؛ لاحتمال أن يكون أعطاه الثمن في مجلس العقد، وأخذ منه الخاتم في المجلس أيضًا، واحتمال أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أعطاه مادة الخاتم فيكون العقد إجارة لا استصناعًا،
وهو عقد جائز عند الجميع، ومع ورود الاحتمال يبطل الاستدلال.
¬__________
(¬1) العقد من الباطن ص 243.
(¬2) فائدة: ورد عن مجاهد: ملك الأرض أربعة أنفس، مؤمنان وكافران، فأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين، وأما الكافران فبختنصر ونمرود. ينظر المنتظم لابن الجوزي، باب ذكر من ملك الأرض كلها 1/ 171.
(¬3) المبسوط 12/ 165، أصول السرخسي ص 203، بدائع الصنائع 5/ 5،342، فتح القدير 5/ 355، الاختيار 2/ 38، فواتح الرحموت 2/ 374، البحر المحيط في أصول الفقه 6/ 50.
(¬4) موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة ص 829 - 834.
(¬5) مجلة مجمع الفقه، عقد الاستصناع للشيخ مصطفى الزرقا ع 7 ج 2 ص 233.
(¬6) رواه البخاري، كتاب اللباس، باب من جعل فص الخاتم في بطن كفه (7/ 157) (ح 5876) واللفظ له، ومسلم، كتاب اللباس (6/ 149) (ح 5473).
(¬7) ص 528.