كتاب مختصر تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل
(60) سورة الممتحنة [1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ كتب إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قريش، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهَمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ" فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لكم» فأنزل الله هذه السورة (¬1) {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] قِيلَ: أَيِ الْمَوَدَّةَ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الْحَجِّ: 25] وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ كقوله إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِرَّهُ بِالْمَوَدَّةِ الَّتِي بينكم وبينهم، {وَقَدْ كَفَرُوا} [الممتحنة: 1] الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا، {بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] يَعْنِي الْقُرْآنَ {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] من مكة، {أَنْ تُؤْمِنُوا} [الممتحنة: 1] أَيْ لِأَنْ آمَنْتُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِإِيمَانِكُمْ، {بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} [الممتحنة: 1] هَذَا شَرْطٌ جَوَابُهُ مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] {جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] قَالَ مُقَاتِلٌ بِالنَّصِيحَةِ، {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ} [الممتحنة: 1] مِنَ الْمَوَدَّةِ لِلْكُفَّارِ {وَمَا أَعْلَنْتُمْ} [الممتحنة: 1] أَظْهَرْتُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ، {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] أَخْطَأَ طَرِيقَ الْهُدَى.
[2] {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} [الممتحنة: 2] يَظْفَرُوا بِكُمْ وَيَرَوْكُمْ، {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [الممتحنة: 2] بالضرب والقتل، {وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} [الممتحنة: 2] بالشتم، {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] كَمَا كَفَرُوا.
يَقُولُ: لَا تُنَاصِحُوهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُنَاصِحُونَكُمْ وَلَا يُوَادُّونَكُمْ.
[3] {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} [الممتحنة: 3] مَعْنَاهُ لَا يَدْعُوَنَّكُمْ وَلَا يَحْمَلَنَّكُمْ ذوو أرحامكم وقراباتكم وأولادكم التي بِمَكَّةَ إِلَى خِيَانَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَتَرْكِ مُنَاصَحَتِهِمْ وَمُوَالَاةِ أَعْدَائِهِمْ فَلَنْ تَنْفَعَكُمْ أرحامكم، {وَلَا أَوْلَادُكُمْ} [الممتحنة: 3] الَّذِينَ عَصَيْتُمُ اللَّهَ لِأَجْلِهِمْ، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3] فَيُدْخِلُ أَهْلَ طَاعَتِهِ الْجَنَّةَ وَأَهْلَ معصيته النار {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 3]
¬_________
(¬1) أخرجه البخاري في الجهاد 6 / 143 ومسلم في فضائل الصحابة برقم (2494) 4 / 1941.
الصفحة 946