كتاب مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (اسم الجزء: 13)

[حدَّثنا جدِّي عن عمرَ بنِ ظفرٍ بإِسناده إلى] ذي النُّون [قال] (¬1): رأيت سعدونَ في المَقبُرة في يومٍ حارّ، وهو يُناجي ربَّه بصوتٍ عالٍ ويقول: أَحَدٌ أَحد، فسلَّمت عليه وقلت: بحقّ مَن تناجيه إلَّا ما وقفتَ لي، فوقف وقال: قل وأَوجز، قلت: أَوصِني بوصيَّة [أَحفظها عنك، أو تدعو لي بدعوة] فقال: [من المنسرح]
يا طالبَ العلمِ من هنا وهنا ... ومَعدِنُ العلمِ بين جنْبَيكا
إنْ كنت تبغي الجِنانَ تسكنُها ... فاذْرِفِ الدَّمعَ فوق خدَّيكا
وقمْ إذا قام كلُّ مُجْتَهِدٍ ... وادعُ لكيما يقولَ لبَّيكا (¬2)
ثم مضى وقال: يا غياثَ المستغيثين أَغِثني، فقلت له: اُرفقْ بنفسك، فلعلَّه يَلْحَظُك لَحْظةً فيغفر لك، فنفض يدَه من يدي وقال:
أَنِست به فلا أَبغي سواه
[وذكر البيتين وقال: أواه.
وروى الخطيبُ عن] الأصمعيِّ [قال] (¬3): مررتُ بسعدون، وإذا هو جالسٌ عند رأس شيخٍ سكرانَ يَذُبُّ عنه، فقلت: ما لي أراك جالسًا عند رأسِ هذا؟ ! فقال: إنَّه مجنون، فقلت: أنت أو هو؟ قال: بل هو، قلت: ولم؟ قال: لأنّي صلَّيت الظهرَ والعصرَ جماعة، وهذا ما صلَّى جماعةً ولا فُرادى، قلت: فهل قلتَ في هذا شيئًا؟ قال: نعم، ثم قال: [من المتقارب]
تركتُ النبيذَ لأهل النَّبيذ ... وأصبحتُ أشرب ماءً قَراحا
فإنَّ النبيذَ يُذلُّ العَزيزَ ... ويكسو الوجوه النّضار الصباحا (¬4)
فإنْ كان ذا جائزًا للشَّباب ... فما العُذرُ فيه إذا الشَّيب لاحا
فقلت: صدقت.
¬__________
(¬1) في (خ): وقال ذي النون. وما بين حاصرتين من (ب).
(¬2) صفة الصفوة 2/ 514.
(¬3) في (خ): وقال الأصمعي.
(¬4) كذا في صفة الصفوة 2/ 515، ولعل الصواب: ويكسو بذاك الوجوه الصِّباحا، كما في المنتظم والبداية والنهاية 13/ 676، أو: ويكسو السواد الوجوهَ الصباحا، كما في نسخة من البداية والنهاية (طبعة مكتبة المعارف) 10/ 204. ووقع في مطبوع المنتظم 9/ 186: ويكسو سواد الوجوه الصباحا، وهو خطأ.

الصفحة 138