كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 13)

لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨)
قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) خَتَمَ السُّورَةَ بِبِشَارَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَدِّهِ إِلَى مَكَّةَ قَاهِرًا لِأَعْدَائِهِ. وَقِيلَ: هُوَ بِشَارَةٌ لَهُ بِالْجَنَّةِ. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ الْقُتَبِيُّ: مَعَادُ الرَّجُلِ بَلَدُهُ، لِأَنَّهُ يَنْصَرِفُ ثُمَّ يَعُودُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَارِ لَيْلًا مُهَاجِرًا إلى المدينة في غير طريق مَخَافَةَ الطَّلَبِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الطَّرِيقِ وَنَزَلَ الْجُحْفَةَ عَرَفَ الطَّرِيقَ إِلَى مَكَّةَ فَاشْتَاقَ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:" إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ" أَيْ إِلَى مَكَّةَ ظَاهِرًا عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْجُحْفَةِ لَيْسَتْ مَكِّيَّةً وَلَا مَدَنِيَّةً. وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ" إِلى مَعادٍ" قَالَ: إِلَى الْمَوْتِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَعِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ: أَنَّ الْمَعْنَى لَرَادُّكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. يُقَالُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْمَعَادُ، أَيْ يَوْمَ القيامة، لان الناس يعودون فيه أحياء. و" فَرَضَ" مَعْنَاهُ أَنْزَلَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا وَأَبِي مَالِكٍ وَأَبِي صَالِحٍ" إِلى مَعادٍ" إِلَى الْجَنَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، لِأَنَّهُ دَخَلَهَا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَقِيلَ: لِأَنَّ أَبَاهُ آدَمَ خَرَجَ مِنْهَا. (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ) أَيْ قُلْ لِكُفَّارِ مَكَّةَ إِذَا قَالُوا إِنَّكَ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" أَنَا أَمْ أنتم. قوله تعالى: (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أَيْ مَا عَلِمْتَ أَنَّنَا نُرْسِلُكَ إِلَى الْخَلْقِ وَنُنَزِّلُ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ. (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ. (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أَيْ عَوْنًا لَهُمْ وَمُسَاعِدًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.

الصفحة 321