كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 13)

فِي الْأَثَرِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ، وَلِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَةِ مَبْلَغِهِمَا فِي أَثَرٍ ثَابِتٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَازِمًا لَوَجَبَ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْبَحْثُ عَنْهُ لِيَقِفُوا عَلَى حَدِّ مَا حَدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ وَفَرْضِهِمْ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا ضَيَّعُوهُ، فَلَقَدْ بَحَثُوا عَمَّا هُوَ أَدْوَنُ مِنْ ذَلِكَ وَأَلْطَفُ. قُلْتُ: وَفِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْقُلَّتَيْنِ مِنَ الخلاف يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّوْقِيفِ فِيهِمَا وَالتَّحْدِيدِ. وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ قَالَ: الْقِلَالُ الْخَوَابِي الْعِظَامُ. وَعَاصِمٌ هَذَا هُوَ أَحَدُ رُوَاةِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ. وَيَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، لِسِيَاقِهِ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لَمَّا رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ «١»، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ أَيْضًا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا قَدَمَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ. وَقَدْ فَاوَضْتُ الطُّوسِيَّ الْأَكْبَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: إِنَّ أَخْلَصَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبُ مَالِكٍ، فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، إِذْ لَا حَدِيثَ فِي الباب يعول عليه، وإنما المعول على ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً" وهو ماء بصفاته، فإذا تغير عن شي مِنْهَا خَرَجَ عَنْ الِاسْمِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الصِّفَةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَجِدِ الْبُخَارِيُّ إِمَامُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِي الْبَابِ خَبَرًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ قَالَ: (بَابُ إِذَا تَغَيَّرَ وَصْفُ الْمَاءِ) وَأَدْخَلَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ:" مَا مِنْ أَحَدٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ «٢» دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ". فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّمَ بِحَالِهِ وَعَلَيْهِ رَائِحَةُ الْمِسْكِ، وَلَمْ تُخْرِجْهُ الرَّائِحَةُ عَنْ صِفَةِ الدَّمَوِيَّةِ. وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا
: إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِرِيحِ جِيفَةٍ عَلَى طَرَفِهِ وَسَاحِلِهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْوُضُوءَ مِنْهُ. وَلَوْ تَغَيَّرَ بِهَا وَقَدْ وُضِعَتْ فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ تَنْجِيسًا لَهُ للمخالطة والاولى مجاورة لا تعويل عليها.
---------------
(١). بئر بضاعة: بئر بالمدينة. ويقال إن بضاعة اسم المرأة نسبت إليها البئر.
(٢). يثعب: يجري.

الصفحة 43