كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 13)

الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- كُلُّ إِنَاءٍ طَاهِرٍ فَجَائِزٌ الْوُضُوءُ مِنْهُ إِلَّا إِنَاءَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اتِّخَاذِهِمَا. وَذَلِكَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِلتَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ وَالْجَبَابِرَةِ لَا لِنَجَاسَةٍ فِيهِمَا. وَمَنْ تَوَضَّأَ فِيهِمَا أَجْزَأَهُ وُضُوءُهُ وَكَانَ عَاصِيًا بِاسْتِعْمَالِهِمَا. وَقَدْ قِيلَ: لَا يُجْزِئُ الْوُضُوءُ فِي أَحَدِهِمَا. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ. وَكُلُّ جِلْدٍ ذَكِيٍّ فَجَائِزٌ اسْتِعْمَالُهُ لِلْوُضُوءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الْوُضُوءَ فِي إِنَاءِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ قَوْلِهِ. وقد تقدم في" النحل" «١».

[سورة الفرقان (٢٥): آية ٤٩]
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِنُحْيِيَ بِهِ) أَيْ بِالْمَطَرِ. (بَلْدَةً مَيْتاً) بِالْجُدُوبَةِ وَالْمَحْلِّ وَعَدَمِ النَّبَاتِ. قَالَ كَعْبٌ: الْمَطَرُ رُوحُ الْأَرْضِ يُحْيِيهَا اللَّهُ بِهِ. وَقَالَ:" مَيْتاً" وَلَمْ يَقُلْ مَيِّتَةً لِأَنَّ مَعْنَى الْبَلْدَةِ وَالْبَلَدِ وَاحِدٌ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْبَلَدِ الْمَكَانَ. (وَنُسْقِيَهُ) قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِضَمِّ النُّونِ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ فِيمَا رَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْهُمَا" نَسْقِيَهُ" (بِفَتْحِ) «٢» النُّونِ. (مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أَيْ بَشَرًا كَثِيرًا وَأَنَاسِيُّ وَاحِدُهُ إِنْسِيٌّ نَحْوَ جَمْعِ الْقُرْقُورِ «٣» قَرَاقِيرُ وَقَرَاقِرُ فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ وَالْمُبَرِّدِ وَأَحَدِ قَوْلَيِ الْفَرَّاءِ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهُ إِنْسَانًا ثُمَّ تُبْدَلُ مِنَ النُّونِ يَاءٌ، فَتَقُولُ: أَنَاسِيُّ، وَالْأَصْلُ أَنَاسِينَ، مِثْلَ سِرْحَانَ وَسَرَاحِينَ، وَبُسْتَانٍ وَبَسَاتِينَ، فَجَعَلُوا الْيَاءَ عِوَضًا مِنَ النُّونِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ سَرَاحِيُّ وَبَسَاتِيُّ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ" أَنَاسِيُّ" بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ الَّتِي فِيمَا بَيْنَ لَامِ الْفِعْلِ وَعَيْنِهِ، مِثْلُ قَرَاقِيرَ وَقَرَاقِرَ. وَقَالَ" كَثِيراً" وَلَمْ يَقُلْ كَثِيرِينَ، لِأَنَّ فَعِيلًا قَدْ يُرَادُ بِهِ الكثرة، نحو" وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «٤» ".
---------------
(١). راجع ج ١٠ ص ١٥٦ طبعه أولى أو ثانية.
(٢). في الأصول:" بضم النون". وهو تحريف والتصويب عن أبى حيان وغيره.
(٣). القرقر: ضرب من السفن. وقيل: هي السفينة العظيمة أو الطويلة.
(٤). راجع ج ٥ ص ٢٧١ فما بعد

الصفحة 56