كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 13)

وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفُ" وَيَلْقَوْنَ" مُخَفَّفَةً، وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ، قَالَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: فُلَانٌ يُتَلَقَّى بِالسَّلَامِ وَبِالتَّحِيَّةِ وَبِالْخَيْرِ (بِالتَّاءِ)، وَقَلَّمَا يَقُولُونَ فُلَانٌ يُلَقَّى السَّلَامَةَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" وَيُلَقَّوْنَ" وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَرَّاءُ وَاخْتَارَهُ غَلَطٌ، لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ" يُلَقَّوْنَ" كَانَتْ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِتَحِيَّةٍ وَسَلَامٍ، وَقَالَ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُتَلَقَّى بِالسَّلَامِ وَبِالْخَيْرِ، فَمِنْ عَجِيبِ مَا فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ قَالَ يُتَلَقَّى وَالْآيَةُ" يُلَقَّوْنَ" وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ. لِأَنَّهُ يُقَالُ فُلَانٌ يُتَلَقَّى بِالْخَيْرِ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ (الْبَاءِ)، فَكَيْفَ يُشْبِهُ هَذَا ذَاكَ! وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ" وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً" وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِهِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأُولَى عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ. وَالتَّحِيَّةُ مِنَ اللَّهِ وَالسَّلَامُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: التَّحِيَّةُ الْبَقَاءُ الدَّائِمُ وَالْمُلْكُ الْعَظِيمُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ" وَسَيَأْتِي. (خالِدِينَ) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ (فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً). قوله تعالى: (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ) هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ تَعَلَّقَتْ بِهَا الْمُلْحِدَةُ. يُقَالُ: مَا عَبَأْتُ بِفُلَانٍ أَيْ مَا بَالَيْتُ بِهِ، أَيْ مَا كَانَ لَهُ عِنْدِي وَزْنٌ وَلَا قَدْرٌ. وَأَصْلُ يَعْبَأُ مِنَ الْعِبْءِ وَهُوَ الثقل. وقول الشاعر»
: كأن بصدره وبجانبيه عبيرا بات يعبؤه عَرُوسُ أَيْ يَجْعَلُ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ. فَالْعِبْءُ الحمل الثقيل، والجمع أعباء. والعبء المصدر. وما اسْتِفْهَامِيَّةٌ، ظَهَرَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ الزَّجَّاجِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْفَرَّاءُ. وَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ نَافِيَةً، لِأَنَّكَ إِذَا حَكَمْتَ بِأَنَّهَا اسْتِفْهَامٌ فَهُوَ نَفْيٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ" قَالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ عِنْدِي أَنَّ مَوْضِعَ" مَا" نَصْبٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ عِبْءٍ يَعْبَأُ بِكُمْ، أَيْ أَيُّ مُبَالَاةٍ يُبَالِي رَبِّي بِكُمْ لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ لِتَعْبُدُوهُ، فَالْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الدُّعَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُضَافٌ إِلَى
مَفْعُولِهِ، وهو اختيار
---------------
(١). هو أبو زبيد يصف أسدا، كما في اللسان مادة" عبأ". ورواه هكذا: كأن ينحره وبمنكبيه عبيرا بات يعبؤه عروس

الصفحة 84