كتاب البداية والنهاية ط الفكر (اسم الجزء: 13)
الْقُرْآنَ وَيُلَقِّنُهُ الشَّهَادَةَ إِذَا جَدَّ بِهِ الْأَمْرُ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عِنْدَهُ وَهُوَ فِي الغمرات فقرأ هُوَ الله الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ 59: 22 فَقَالَ: وَهُوَ كَذَلِكَ صَحِيحٌ. فَلَمَّا أَذَّنَ الصُّبْحُ جَاءَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، فَلَمَّا قَرَأَ الْقَارِئُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ 9: 129 تَبَسَّمَ وَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ وَأَسْلَمَ رُوحَهُ إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، لِأَنَّهُ وُلِدَ بِتَكْرِيتَ فِي شُهُورِ سنة ثنتين وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَدْ كَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ وَحِرْزًا وَكَهْفًا مِنْ كَيْدِ الْكَفَرَةِ اللِّئَامِ، وذلك بتوفيق الله له، وَكَانَ أَهْلُ دِمَشْقَ لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِ مُصَابِهِ، وَوَدَّ كُلٌّ مِنْهُمْ لَوْ فَدَاهُ بِأَوْلَادِهِ وَأَحْبَابِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ غُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَاحْتُفِظَ عَلَى الْحَوَاصِلِ، ثم أخذوا في تجهيزه، وحضر جميع أولاده وأهله، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى غُسْلَهُ خَطِيبُ الْبَلَدِ الْفَقِيهُ الدَّوْلَعِيُّ، وَكَانَ الَّذِي أَحْضَرَ الْكَفَنَ وَمُؤْنَةَ التَّجْهِيزِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ الْحَلَالِ، هَذَا وأولاده الكبار والصغار يتباكون وينادون، وأخذ الناس في العويل والانتحاب والدعاء له والابتهال، ثم أبرز جسمه في نعشه فِي تَابُوتٍ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَأَمَّ النَّاسَ عَلَيْهِ الْقَاضِي ابْنُ الزَّكِيِّ ثُمَّ دُفِنَ فِي داره بالقلعة المنصورة، ثم شرع ابْنُهُ فِي بِنَاءِ تُرْبَةٍ لَهُ وَمَدْرَسَةٍ لِلشَّافِعِيَّةِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَسْجِدِ الْقَدَمِ، لِوَصِيَّتِهِ بِذَلِكَ قَدِيمًا، فلم يكمل بناؤها، وَذَلِكَ حِينَ قَدِمَ وَلَدُهُ الْعَزِيزُ وَكَانَ مُحَاصِرًا لِأَخِيهِ الْأَفْضَلِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فِي سَنَةِ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ اشْتَرَى لَهُ الْأَفْضَلُ دَارًا شمالي الكلاسة في زان مَا زَادَهُ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فِي الْكَلَّاسَةِ، فَجَعَلَهَا تُرْبَةً، هَطَلَتْ سَحَائِبُ الرَّحْمَةِ عَلَيْهَا، وَوَصَلَتْ أَلْطَافُ الرَّأْفَةِ إِلَيْهَا. وَكَانَ نَقْلُهُ إِلَيْهَا فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ تَحْتَ النسر قاضى القضاة محمد بن على القرائبي ابن الزكي، عن إذن الأفضل، وَدَخَلَ فِي لَحْدِهِ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ فَدَفَنَهُ بِنَفْسِهِ، وهو يومئذ سلطان الشام، وَيُقَالُ إِنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ سَيْفُهُ الَّذِي كَانَ يحضر به الجهاد، وذلك عن أمر القاضي الفاضل، وَتَفَاءَلُوا بِأَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَوَكَّأُ عليه، حتى يدخل الجنة إن شاء الله. ثُمَّ عُمِلَ عَزَاؤُهُ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يحضره الخاص والعام، وَالرَّعِيَّةُ وَالْحُكَّامُ، وَقَدْ عَمِلَ الشُّعَرَاءُ فِيهِ مَرَاثِيَ كثيرة من أحسنها ما عمله العماد الكاتب في آخر كتابه البرق السامي، وهي مائتا بيت واثنان، وَقَدْ سَرَدَهَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ في الروضتين، منها قوله:
شَمْلُ الْهُدَى وَالْمُلْكِ عَمَّ شَتَاتُهُ ... وَالدَّهْرُ سَاءَ وَأَقْلَعَتْ حَسَنَاتُهُ
أَيْنَ الَّذِي مُذْ لَمْ يَزَلْ مَخْشِيَّةً ... مَرْجُوَّةً رَهَبَاتُهُ وَهِبَاتُهُ؟
أَيْنَ الَّذِي كَانَتْ لَهُ طَاعَاتُنَا ... مَبْذُولَةً وَلِرَبِّهِ طَاعَاتُهُ؟
باللَّه أَيْنَ النَّاصِرُ الْمَلِكُ الَّذِي ... للَّه خَالِصَةً صَفَتْ نِيَّاتُهُ؟
أَيْنَ الَّذِي مَا زَالَ سُلْطَانًا لَنَا ... يُرْجَى نَدَاهُ وَتُتَّقَى سَطَوَاتُهُ؟
الصفحة 3
372