كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 13)

يأتي بعدكَ من أمَّتِك؟ قال: أرأيتَ لو كان لرجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحجَّلةٌ، في خيلٍ دُهم بُهم، ألا يَعرِفُ خيلهُ؟ " قالوا: بلى يا رسُولَ اللَّه، قال: "فإنَّهُم يأتُونَ يومَ القِيامةِ غُرًّا مُحجَّلِينَ من الوُضُوءِ، وأنا فَرَطُهُم على الحَوْضِ، فليُذادنَّ رِجالٌ عن حَوْضِي، كما يُذادُ البَعِيرُ الضّالُّ، أُنادِيهِم: ألا هلُمَّ، ألا هلُمَّ، فيُقالُ: إنَّهُم قد بدَّلُوا بعدكَ، فأقُولُ: فسُحقًا فسُحقًا" (¬١).
وأمّا قولُهُ: "فإنَّهُم يأتُونَ يومَ القِيامةِ غُرًّا مُحجَّلِين من الوُضُوءِ".
ففيه دليلٌ على أنَّ الأُممَ أتباعَ الأنبِياءِ لا يتوضَّؤُونَ مِثل وُضُوئنا، على الوَجهِ، واليدينِ، والرِّجلينِ، لأنَّ الغُرَّةَ في الوَجْهِ، والتَّحجِيلَ في اليدينِ والرِّجلينِ (¬٢).
هذا ما لا مدفَعَ فيه على هذا الحدِيثِ، إلّا أن يَتأوَّل مُتأوِّلٌ هذا الحدِيث، أنَّ وُضُوءَ سائرَ الأُمم لا يُكسِبُها غُرَّةً ولا تحجِيلًا، وأنَّ هذه الأُمَّةَ بُورِكَ لها في وُضُوئها، بما أُعطِيت من ذلك، شَرفًا لها (¬٣) ولنبِيِّها -صلى اللَّه عليه وسلم-، كسائرِ فَضائلِها على سائرِ الأُمم.
كما فُضِّل نبِيُّها -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمقام المحمُودِ وغيرِهِ على سائرِ الأنبِياءِ، واللَّه أعلمُ.
وقد يجُوزُ أن يكونَ الأنبِياءُ يتوضَّؤُونَ فيَكْتَسِبُونَ (¬٤) بذلك الغُرَّةَ والتَّحجِيلَ، ولا يتوضَّأُ أتباعُهُم ذلك الوُضُوءَ.
كما خُصَّ نبِيُّنا -صلى اللَّه عليه وسلم- بأشياءَ دُونَ أُمَّتِهِ، منها: نِكاحُ ما فوقَ الأربع، والموهُوبةِ بغيرِ صَداقٍ، والوِصالُ، وغيرُ ذلك، فيكونُ ذلك من فضائلِ هذه الأُمَّةِ، أن
---------------
(¬١) أخرجه النسائي في المجتبى ١/ ٩٣، وفي الكبرى ١/ ١٢٩ (١٤٣)، والآجري في الشريعة (٨٣٣) من طريق قتيبة، به.
(¬٢) قوله: "في اليدين والرجلين" سقط من د ٢.
(¬٣) في م: "دائمًا".
(¬٤) في الأصل: "فيكسبون"، والمثبت من د ٢.

الصفحة 101