كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 13)

قال أبو عُمر: ثبت عن النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّهُ قال: "لا صلاةَ لمن لم يَقْرأ فيها (¬١) بفاتحةِ الكِتابِ، ومن صلَّى صَلاةً لم يَقْرأ فيها بأُمِّ القُرآنِ فهي خِداجٌ غيرُ تمام". فثبتَ بهذا النَّصِّ وُجُوبُ قِراءَتِها في كلِّ صلاةٍ لمن قدَرَ عليها، وبطَلَ بهذا قولُ من قال: إنَّ أُمَّ القُرآنِ وغيرها في ذلك سواءٌ. وقولُ من قال: يَقْرأُ بعدَدِ آياتِها وحُرُوفِها من غيرها من القُرآنِ، ويُجزِئُهُ. لأنَّ النَّصَّ عليها، والتَّعيِين لها، قد خصَّها بهذا الحُكم دُون غيرِها.
وهذا لا إشكالَ فيه، إلّا على من حُرِم رُشدهُ، وعَمِي قلبُهُ، ومحُالٌ أن يجِيءَ بالبَدلِ منها من وجبَتْ عليه فتَرَكها وهُو قادِرٌ عليها، وإنَّما عليه أن يجِيءَ بها، ويَعُود إليها، إذا كان قادِرًا عليها كسائرِ المفروضات المُعيَّناتِ في العِباداتِ.
ولم يبق بعد هذا البيانِ إلّا الكلامُ: هل يتعيَّنُ وُجُوبُها في كلِّ ركعةٍ، أو مرَّةً واحِدةً في الصَّلاةِ كلِّها، على ظاهِرِ الحدِيثِ؟ لأنَّهُ لا يخلُو قولُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا صَلاةَ لمن لم يَقْرأ فيها بفاتحةِ الكِتابِ". وقولُهُ: "من صَلَّى صلاةً لم يَقْرأ فيها بفاتحةِ الكِتابِ، فهي خِداجٌ غيرُ تمام". من أن يكونَ على ظاهِرِهِ، وبكونُ معنى قولِهِ: "كلُّ صلاةٍ" كلُّ ركعةٍ.
فإن كان الحدِيثُ على ظاهِرِهِ، فينبغِي أن يكونَ من صلَّى صلاةً من أربَع ركعاتٍ، أو ثلاثٍ، أو رَكْعتينِ، فقرَأ فيها مرَّةً واحِدةً بفاتحةِ الكِتابِ، أن تُجزِئَهُ صلاتُهُ تلكَ، وتكون تامَّةً غير خِداج، لأنَّها صَلاةٌ قد قُرِئَ فيها بأُمِّ القُرآنِ، فليسَتْ بخداج غيرِ تمام، بل هي تمامٌ، لا خِداجَ فيها، إذا قُرِئَ فيها بأُمِّ القُرآنِ، على ظاهِرِ الحدِيثِ، على ما ذهَبَ إليه بعضُ أهلِ البصرةِ، والمُغِيرةُ المخزُومِيُّ.
فلمّا رأينا جماعتهُم، وجُمهُورهُم، وعامَّتهُمُ، التي هي الحُجَّةُ على من خالَفَها، ولا يجُوزُ الغلطُ عليها في التَّأوِيلِ، ولا الاتِّفاقِ على الباطِلِ، ولا التَّواطُؤِ عليه،
---------------
(¬١) هذه الكلمة لم ترد في الأصل، ت، م، وهي ثابتة في د ٢.

الصفحة 26