كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 13)

مع اختِلافِ مذاهِبِها، وتبايُنِ آرائها، قدِ اتَّفقُوا، إلّا من شذَّ مِمَّن لا يُعدُّ خِلافًا على الجُمهُورِ، بل هُو محجُوجٌ بهم، ومأمُورٌ بالرُّجُوع إليهم، إذا شذَّ عنهُم، اتَّفقُوا على أنَّ من لم يَقْرأ في ركعتينِ من صلاتِهِ، أنَّهُ لا تُجزِئُهُ صلاتُهُ تلكَ، وعليه إعادتُها، وهُو في حُكم من لم يُصلِّها، اسْتَدللنا بهذا الاتِّفاقِ والإجماع في هذا المعنى، على أنَّ قولهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا صلاةَ لمن لم يَقْرأ فيها بفاتحةِ الكِتابِ". و"من صلَّى صَلاةً لم يقرأ فيها بأُمِّ القُرآنِ، فهي خِداجٌ غيرُ (¬١) تمام". معناهُ: كلُّ ركعةٍ لم يقرأ فيها بفاتحةِ الكِتابِ.
وكذلك قال جابرُ بن عبدِ اللَّه رضي اللَّهُ عنه: كلُّ رَكْعةٍ لم يقرأ فيها بأُمِّ القُرآنِ، فلم تُصَلَّ إلّا وراءَ الإمام (¬٢). وجابرٌ أحدُ عُلماءِ الصَّحابةِ، الذين يُسلَّمُ إليهم (¬٣) في التَّأوِيلِ، لمعرِفتِهِم بما خرجَ عليه القولُ.
ولا خِلافَ بين أهلِ العِلم والنَّظرِ، أنَّ المسألةَ إذا كان فيها وَجْهانِ، فقام الدَّليلُ على بُطلانِ الوَجْهِ الواحِدِ منهُما، أنَّ الحقَّ في الوَجْهِ الآخرِ، وأنَّهُ مُستَغنٍ عن قِيام الدَّليلِ على صِحَّتِهِ، بقِيام الدَّليلِ على بُطلانِ ضِدِّهِ، وقد قام الدَّليلُ من أقوالِهِم: أنَّ القِراءةَ لا بُدَّ منها في رَكْعتينِ أقلُّ شيءٍ.
فعَلِمنا بذلك أنَّ الحدِيث المذكُور ليسَ على ظاهِرِهِ، وأنَّ معنَى قولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من صلَّى صَلاةً لم يَقْرأ فيها بفاتحةِ الكِتابِ، فلا صلاةَ لهُ، وهي خِداجٌ غيرُ تمام". أنَّهُ أرادَ كلَّ ركعةٍ، بدليلِ ما وصفنا، والرَّكعةُ تُسمَّى صَلاةً في اللُّغةِ والشَّرع، بدليلِ الوِترِ بركعةٍ منقطِعةٍ (¬٤) عمّا قبلها، وباللَّه توفِيقُنا.
---------------
(¬١) في م: "بغير".
(¬٢) أخرجه مالك في الموطأ ١/ ١٣٥ (٢٢٣).
(¬٣) في الأصل: "لهم"، والمثبت من د ٢.
(¬٤) في الأصل: "منفصلة"، والمثبت من د ٢.

الصفحة 27