كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 13)

ومن أحَسنِ ما قيل في هذا المعنى من النَّظم، قولُ أبي العتاهيةِ (¬١):
أهلَ القُبُورِ عليكُم مِنِّي السَّلامُ ... إنِّي أُكلِّمُكُم وليس بكُم كلامْ
لا تحسبُوا أنَّ الأحِبَّةَ لم يسُغْ ... من بعدِكُم لهُمُ الشَّرابُ ولا الطَّعامْ
كلّا لقد رفضُوكُم واستبدلُوا ... بكُمُ وفرَّق ذات بينِكُمُ الحِمامْ (¬٢)
والخلقُ كلُّهُمُ كذاك فكلُّ من ... قد ماتَ ليسَ لهُ على حيٍّ ذِمامْ (¬٣)
وأمّا قولُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإنّا إن شاءَ اللَّه بكُم لاحِقُونَ". ففي مَعناهُ قولانِ:
أحدُهُما: أنَّ الاسْتثناءَ مردُودٌ على معنى قولِهِ: "دارَ قوم مُؤمِنِين". أي: وإنّا بكُم لاحِقُونَ إن شاءَ اللَّه، مؤمنين في حالِ إيمانٍ، لأنَّ الفِتنةَ لا يأمنُها مُؤمِنٌ، ألا تَرَى إلى قولِ إبراهيم عليه السَّلامُ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: ٣٥]. وقولِ يُوسُف عليه السَّلامُ (¬٤): {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: ١٠١].
والوجهُ الثّاني: أَنَّهُ قد يكونُ الاستِثناءُ في الواجِباتِ التي لا بُدَّ من وُقُوعِها، كالموتِ، والكونِ في القبرِ، وما (¬٥) لا بُدَّ منهُ (¬٦)، ليسَ على سبِيلِ الشَّكِّ، ولكِنَّها لُغة للعربِ، ألا تَرَى إلى قولِ اللَّه تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: ٢٧]. والشَّكُّ لا سبِيلَ إلى إضافتِهِ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، تعالى عن ذلك علّامُ الغُيُوبِ.
---------------
(¬١) أشعاره وأخباره، ص ٣٤١ - ٣٤٢.
(¬٢) الحمام بالكسر: الموت. وقيل: قضاء الموت وقدره. انظر: لسان العرب ١٢/ ١٥٤.
(¬٣) الذمام: العهد، والأمان، والضمان، وسمي أهل الذمة، ذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم. انظر: لسان العرب ١٢/ ٢٢١.
(¬٤) في م: "صلى اللَّه عليه وسلم".
(¬٥) هذا الحرف سقط من م.
(¬٦) من قوله: "كالموت". إلى هنا، سقط من د ٢، ت.

الصفحة 80