كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 13)

فِي أَصْلِ الْعُزْلَةِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ الِاخْتِلَاطُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ اكْتِسَابِ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ لِلْقِيَامِ بِشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ وَإِيصَالِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ مِنْ إِعَانَةٍ وَإِغَاثَةٍ وَعِيَادَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَالَ قَوْمٌ الْعُزْلَةُ أَوْلَى لِتَحَقُّقِ السَّلَامَةِ بِشَرْطِ مَعْرِفَةِ مَا يَتَعَيَّنُ وَقَدْ مَضَى طَرَفٌ مِنْ ذَلِكَ فِي بَابِ الْعُزْلَةِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ تَفْضِيلُ الْمُخَالَطَةِ لِمَنْ لَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقَعُ فِي مَعْصِيَةٍ فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ فَالْعُزْلَةُ أَوْلَى وَقَالَ غَيْرُهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَرَجَّحُ ولَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ بَلْ إِذَا تَسَاوَيَا فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فَإِنْ تَعَارَضَا اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فَمَنْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ الْمُخَالَطَةُ مَنْ كَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِمَّا عَيْنًا وَإِمَّا كِفَايَةً بِحَسَبِ الْحَالِ وَالْإِمْكَانِ وَمِمَّنْ يَتَرَجَّحُ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَسْلَمُ فِي نَفْسِهِ إِذَا قَامَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَمِمَّنْ يَسْتَوِي مَنْ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَا يُطَاعُ وَهَذَا حَيْثُ لَا يَكُونُ هُنَاكَ فِتْنَةٌ عَامَّةٌ فَإِنْ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ تَرَجَّحَتِ الْعُزْلَةُ لِمَا يَنْشَأُ فِيهَا غَالِبًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْذُورِ وَقَدْ تَقَعُ الْعُقُوبَةُ بِأَصْحَابِ الْفِتْنَةِ فَتَعُمُّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهلهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُم خَاصَّة وَيُؤَيِّدُ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا خَيْرُ النَّاسِ رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَرَجُلٌ فِي شِعْبِ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْعُزْلَةِ مِنْ كِتَابِ الرِّقَاقِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ آنِفًا فَإِنَّ أَوَّلَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ خَيْرُ مُعَاشِرِ النَّاسِ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَرَجُلٌ فِي غَنِيمَةٍ الْحَدِيثَ وَكَأَنَّهُ وَرَدَ فِي أَيِّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ فَإِنْ أُخِذَ عَلَى عُمُومِهِ دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعُزْلَةِ لِمَنْ لَا يَتَأَتَّى لَهُ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قيد بِزَمَان وُقُوع الْفِتَن وَالله أعلم

الصفحة 43