كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 13)

وَمِنْه وانه لذكر لَك ولقومك ورفعنا لَك ذكرك قَالَ فَإِذَا كَانَ الذِّكْرُ يَتَصَرَّفُ إِلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ وَهِيَ كُلُّهَا مُحْدَثَةٌ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى إِحْدَاهَا أَوْلَى وَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانَ مُحْدَثًا وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الذِّكْرِ مَا هُوَ مُحْدَثٌ كَمَا قُلْنَا وَقِيلَ مُحْدَثٌ عِنْدَهُمْ وَمِنْ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ الذِّكْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ مُحْدَثٌ عِنْدَنَا وَهُوَ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَلَمْ يَزَلْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِجَمِيعِ صِفَاته قَالَ بن التِّينِ وَهَذَا مِنْهُ أَيْ مِنَ الدَّاوُدِيِّ عَظِيمٌ وَاسْتِدْلَالُهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ لَمْ يَزَلْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ فَكَيْفَ تَكُونُ صِفَتُهُ مُحْدَثَةً وَهُوَ لَمْ يَزَلْ بِهَا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْمُحْدَثَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَقُولُ الْبَلْخِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ حَيْثُ قَالَ وَإِنَّ حَدَثَهُ لَا يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ فَأَثْبَتَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ انْتَهَى وَمَا اسْتَعْظَمَهُ مِنْ كَلَامِ الدَّاوُدِيِّ هُوَ بِحَسَبِ مَا تَخَيَّلَهُ وَإِلَّا فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ غَيْرُ مُحْدَثٍ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ الْحَدَثُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِنْزَالِهِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ لَهُ وَإِقْرَائِهِمْ غَيْرَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ أَعَادَ الدَّاوُدِيُّ نَحْوَ هَذَا فِي شَرْحِ قَوْلُ عَائِشَةَ وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى قَالَ الدَّاوُدِيُّ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِبَرَاءَةِ عَائِشَةَ حِينَ أَنْزَلَ بَرَاءَتَهَا بِخِلَافِ قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ إِنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فَقَالَ بن التِّينِ أَيْضًا هَذَا مِنَ الدَّاوُدِيِّ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ حَادِثٍ فَتَحِلَّ فِيهِ الْحَوَادِثُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِأَنْزَلَ أَنَّ الْإِنْزَالَ هُوَ الْمُحْدَثُ لَيْسَ أَنَّ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ نَزَلَ الْآنَ انْتَهَى وَهَذَا مُرَادُ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يَعْنِي الْقَاسِمَ بْنَ سَلَّامٍ احْتَجَّ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةُ بِآيَاتٍ وَلَيْسَ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ أَشَدُّ بَأْسًا مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قَوْلُهُ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء فقدره تَقْديرا وانما الْمَسِيح عِيسَى بن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته وَمَا يَأْتِيهم من ذكر من رَبهم مُحدث قَالُوا إِنْ قُلْتُمْ إِنَّ الْقُرْآنَ لَا شَيْءَ كَفَرْتُمْ وَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ الْمَسِيحَ كَلِمَةُ اللَّهِ فَقَدْ أَقْرَرْتُمْ أَنَّهُ خُلِقَ وَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَ بِمُحْدَثٍ رَدَدْتُمُ الْقُرْآنَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَمَّا قَوْله وَخلق كل شَيْء فَقَدْ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيكون فَأَخْبَرَ أَنَّ خَلْقَهُ بِقَوْلِهِ وَأَوَّلُ خَلْقِهِ هُوَ مِنْ أَوَّلِ الشَّيْءِ الَّذِي قَالَ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِقَوْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ قَبْلَ خَلْقِهِ وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بِكَلِمَتِهِ لَا أَنَّهُ هُوَ الْكَلِمَة لقَوْله القاها إِلَى مَرْيَم وَلَمْ يَقُلْ أَلْقَاهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَإِنَّمَا حَدَثُ الْقُرْآنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لِمَا عَلَّمَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالَ سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَعْنِي الْقَطَّانَ يَقُولُ مَا زِلْتُ أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ إِنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَأَكْسَابُهُمْ وَكِتَابَتُهُمْ مَخْلُوقَةٌ فَأَمَّا الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ الْمُبِينُ الْمُثْبَتُ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَسْطُورُ الْمَكْتُوبُ الْمُوعَى فِي الْقُلُوبِ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِخَلْقٍ قَالَ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ يَعْنِي بن رَاهْوَيْهِ فَأَمَّا الْأَوْعِيَةُ فَمَنْ يَشُكُّ فِي خَلْقِهَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فَالْمِدَادُ وَالْوَرَقُ وَنَحْوُهُ خَلْقٌ وَأَنْتَ تَكْتُبُ اللَّهُ فَاللَّهُ فِي ذَاتِهِ هُوَ الْخَالِقُ وَخَطُّكَ مِنْ فِعْلِكَ وَهُوَ خَلْقٌ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ دُونَ اللَّهِ هُوَ بِصُنْعِهِ ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ رَفَعَهُ إِنَّ اللَّهَ يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَوْلُهُ وَقَالَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَصَححهُ بن حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ

الصفحة 498