كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 13)

(قَوْلُهُ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ)
رِسَالَاتِهِ كَذَا لِلْجَمِيعِ وَظَاهِرُهُ اتِّحَادُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّ مَعْنَى إِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَمْ تُبَلِّغْ لَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَزَاءِ لَازِمُهُ فَهُوَ كَحَدِيثِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْأَمْرِ فَقِيلَ الْمُرَادُ بَلِّغْ كَمَا أُنْزِلَ وَهُوَ عَلَى مَا فَهِمَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا وَقِيلَ الْمُرَادُ بَلِّغْهُ ظَاهِرًا وَلَا تَخْشَ مِنْ أَحَدٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وَالثَّانِي أَخَصُّ مِنَ الْأَوَّلِ وَعَلَى هَذَا لَا يَتَّحِدُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ لَكِنَّ الْأَوْلَى قَوْلُ الْأَكْثَرِ لِظُهُورِ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا أُنْزِلَ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ كُلَّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أعلم وَرجح الْأَخير بن التِّينِ وَنَسَبَهُ لِأَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَدِ احْتَجَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَوْ كَانَ مَا يَقُولُ الْجَعْدُ حَقًّا لَبَلَّغَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ مِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ هَذَا وَقَعَ فِي قِصَّةٍ أَخْرَجَهَا الْحُمَيْدِيُّ فِي النَّوَادِرِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْخَطِيبُ قَالَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِلزُّهْرِيِّ يَا أَبَا بَكْرٍ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ مَا مَعْنَاهُ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ مِنَ اللَّهِ الْعِلْمُ وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ الْأَوْزَاعِيُّ أخرجه بن أبي عَاصِم فِي كتاب الْأَدَب وَذكر بن أَبِي الدُّنْيَا عَنْ دُحَيْمٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ فَذَكَرَهُ قَوْلُهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أبلغوا رسالات رَبهم وَقَالَ ابلغكم رسالات رَبِّي قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ قَوْلَهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الرَّسُول بلغ الْآيَةَ قَالَ فَذَكَرَ تَبْلِيغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ثُمَّ وَصَفَ فِعْلَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَقَالَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ قَالَ فَسَمَّى تَبْلِيغَهُ الرِّسَالَةَ وَتَرْكَهُ فِعْلًا وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَقُولَ إِنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ يَعْنِي فَإِذَا بَلَّغَ فَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَتِلَاوَتُهُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ هُوَ التَّبْلِيغُ وَهُوَ فِعْلُهُ وَذَكَرَ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْجُشَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهَا قَالَ أَتَتْنِي رِسَالَةٌ مِنْ رَبِّي فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعًا وَرَأَيْتُ أَنَّ النَّاسَ سَيُكَذِّبُونَنِي فَقِيلَ لِي لَتَفْعَلَنَّ أَوْ ليفعلن بك وَأَصله فِي السّنَن وَصَححهُ بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَحَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ فِي قِصَّةِ الْكُسُوفِ وَفِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ رَسُولٌ فَأُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي قَصَّرْتُ عَنْ تَبْلِيغِ شَيْءٍ مِنْ رِسَالَاتِ رَبِّي يَعْنِي فَقُولُوا فَقَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ بَلَّغْتَ رِسَالَاتِ رَبِّكَ وَقَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ وَأَصْلُهُ فِي السُّنَنِ وَصَححهُ بن خُزَيْمَة وبن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبك هُوَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ وَكَذَلِكَ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَالصَّلَاةُ بِجُمْلَتِهَا طَاعَةُ اللَّهِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ فَالصَّلَاةُ طَاعَةٌ وَالْأَمْرُ بِهَا قُرْآنٌ وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ مَقْرُوءٌ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فَالْقِرَاءَةُ وَالْحِفْظُ وَالْكِتَابَةُ مَخْلُوقَةٌ وَالْمَقْرُوءُ وَالْمَحْفُوظُ وَالْمَكْتُوبُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَنَّكَ تَكْتُبُ اللَّهُ وَتَحْفَظُهُ وَتَدْعُوهُ فَدُعَاؤُكَ وَحِفْظُكَ وَكِتَابَتُكَ وَفِعْلُكَ مَخْلُوقٌ وَاللَّهُ هُوَ الْخَالِقُ قَوْلُهُ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَيَرَى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون قَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مُسْنَدًا فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةٌ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ وَفِي آخِرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ الْآيَةَ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ وَمُنَاسَبَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَةِ التَّفْوِيض وَالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُزَكِّيَ عَمَلَهُ بَلْ يُفَوِّضَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قُلْتُ وَمُرَادُ الْبُخَارِيِّ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ عَمَلًا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ قَوْلُهُ

الصفحة 504