كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 31)

"""""" صفحة رقم 148 """"""
حلك السحب برق ثغرها المفتر .
وهو حصن صاعد منحدر ، بارزه مستدير ، لا يطأ إليه السالك إلا على المحاجر ، ولا تنظره العيون حتى تبلغ القلوب الحناجر ، كأنه في ضمائر الجبال حب يقتل وهو كامن ، ويجرف الظاهر وهو باطن . قد أرخت عليه الجبال الشواهق ذوائبها ، ومدت عليه الغمائم أطنابها ومضاربها . وقد تنافست فيه الرواسي الرواسخ فأخفاه بعضها عن بعض وتقاسمته العناصر فهو للنكاية والرفعة والثبات ومجاورة الفرات مشترك بين النار والهواء والماء والأرض . وقد امتدت الفرات من شرقيها كالسيف في كف طالب ثأر ، واكتنفها من جهة الغرب نهر آخر استدار نحوها كالسور وانعطف معها كالسوار . وفي قنة قلتها جبل يرد الطرف وهو كليل ، ويصل النظر إلى تخيل هضابه فلا يهتدي إلى تصورها بغير دليل ، وكذلك من شرقها وغربها ، فلا تنظرها الشمس وقت الشروق ، ولا يشاهدها القمر وقت الأصيل . وحولها من الأودية خنادق لا يعرف فيها الهلال إلا بوصفه ، ولا الشهر إلا بنصفه . وأما الطريق إليها فيزل الذرّ عن متنها . ويكل طرفُ الطرف عن سلوك سهلها فضلاً عن حزنها . وبها من الأرمن عصب جمعهم التكفور ، ومن التتار فرق زيادتهم للتغوير ، قد بذلوا دونها النفوس ، وتدرعوا للذب عنها لبوس . وأقدموا على شرب كأس الحمام ، خوفاً أن يكفرهم التكفور ؛ ويحرمهم خليفتهم الحاكم بها ، كتبغا نميكوس . وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم ، وفسح في ميدان الضلالة آمالهم ، فلما تراءت الفئتان ، نكص على عقبية ، وترك كلاً منهما يعض من الندم يديه . وحين أمر مولانا السلطان ، خلّد الله سلطانه ، الجيوش المنصورة بالنزول عليها ، والهجوم من خلفها ومن بين يديها ، ذللت مواطئ جيادها صهوات تلك الجبال . وأحاطت بها من كل جانب إحاطة الهلال بالهلال . وسلكوا إليها تلك المخارم ، وقد تقدمهم الرعب هادياً وأقدموا على قطع تلك المسالك والمهالك ، بالأموال والأنفس ، ثقة بأنهم لا ينفقون

الصفحة 148